في الطريق إلى العمل كل صباح ومساء ترى نظرات الاهتمام في عيون سائقي سيارات الأجرة والركاب والمشاة ..
وفي مقر عملها ترمقها عيون الجميع من المدير إلى الفراش مرورا بجميع زملائها ..
أما هناك .. في بيتها .. فيضطجع هو على الأريكة الطويلة في غرفة الجلوس .. وعيناه تتجنبان النظر إليها .. وتحملقان في شاشة التلفاز ..
* * * * * * *
في العديد من الصباحات تصادف مروره في ذات الوقت الذي تكون فيه واقفة في ذات المكان تنتظر سيارة سرفيس توصلها إلى مكان عملها ..
وفي العديد من المرات تصادف أن يكون المقعد الفارغ هو المقعد الأمامي .. على يمينه ..
ثم .. لم تعد تلك مصادفة ..
وفي واحد من تلك الصباحات .. ناولته ورقة الدينار ليقتطع منها الأجرة ..وحين أعاد لها الباقي .. لمست يده يدها .. فسرت في جسدها رعدة هزت كيانها ..
- ”آسف“ قال لها ..
لم تستطع الإجابة ..
لمح صفحة وجهها فرآها تنظر إلى اللاشيء طوال ما تبقى من الطريق ..
ولمحت صفحة وجهه فرأته يرتجف ..
- ”هل كانت مصادفة؟“ .. تساءلت بينها وبين نفسها ..
- ”هل كانت مصادفة؟“ .. تساءل بينه وبين نفسه ..
وحين وصلت مقر عملها .. وقبل أن تنزل .. تلاقت عيونهما للحظة .. كانت كافية.
- ”ثمة شيء ما!“ .. فكرت هي.
وفكر هو: ”ثمة شيء ما!“ .
* * * * * * *
نزل آخر ركابه عند نهاية الخط ..
تراكض عليه المنتظرون في الطابور فاعتذر منهم: ”مش طالع يا شباب!“. تركوه متبرمين وسرعان ما جاءت سيارة سرفيس أخرى فتراكضوا نحوها.
أوقف سيارته في مكان قريب في ظل شجرة بعيدا عن طابور المنتظرين .. نزل منها وسار باتجاه مطعم هاشم ..
اختار طاولة فارغة في أول الدخلة وجلس.
جاءه الشاب مبتسما وسأله: ”كالعادة مثل كل يوم؟“ هز رأسه بالإيجاب.
أحضر له صحن الحمص والفلافل وصحن السرفيس وكاسة شاي كبيرة ..
مد يده إلى صحن السرفيس عدة مرات ولكنه كان يمنع نفسه في كل مرة ..
- ”ما بيصير تشم ريحة البصل إذا روحت معي اليوم“ .
* * * * * * *
جلست على أحد المقاعد في صالة انتظار المراجعين تلتقط أنفاسها بصعوبة .. فمن جهة كان صعود الدرج من الطابق الأرضي إلى الطابق الثالث حيث مختبر الفحوصات الطبية قد هدها جسديا .. ومن جهة أخرى كان القلق من النتيجة قد دمر أعصابها ..
- ”أهلا ست ..؟“ قالت موظفة المختبر وهي تبتسم .. وكان واضحا أنها تطلب من المراجعة أن تذكر اسمها ..
نطقت اسمها بين أنفاسها اللاهثة .. فدخلت الموظفة إلى حجرة أخرى وعادت بعد قليل ومعها مغلف كتب عليه اسمها واسم الطبيبة التي كانت قد حولتها إلى المختبر لإجراء الفحوصات ..
- ”طمنيني!“
- ”ح تخبرك الدكتورة لما تشوفيها“
- ”يعني قمحة أو شعيرة؟“
- ”لا تقلقي .. ما بقدر أحكيلك أي إشي .. ح تخبرك الدكتورة“
كانت لهجتها صارمة جدا بشكل أنهى لدى المراجعة أي أمل في الحصول على أية معلومة ..
* * * * * * *
عصر ذلك اليوم كانت في عيادة الطبيبة ..
- ”الدكتورة موجودة؟“
- ”نعم موجودة. استريحي شوية بليز. عندها مريضة تانية .. ح أدخلك بعد ما تطلع مباشرة“
بعد خمس عشرة دقيقة طوال خرجت المريضة الثانية .. فأشارت لها السكرتيرة بالدخول ..
- ”مرحبا دكتورة“
- ”أهلا حبيبتي“
- ”جبت النتيجة“
- ”فرجيني أشوف“
أخذت الطبيبة المغلف وفتحته .. وضعت نظاراتها على عينيها. وكانت عينا المريضة تتابعان بقلق عيني الطبيبة وهما تنتقلان بين كلمات السطور.
- ”مبروك“ قالت الطبيبة مبتسمة.
- ”والله؟“ صاحت بلهفة وهي لا تصدق نفسها
- ”والله!“ ردت الدكتورة وهي تبتسم ابتسامة واثقة.
ولكنها تابعت بعد سكوت .. ”من خبرتي في الحالات اللي زي هيك الزلمة ما بيصدق نتائج الفحوصات إذا كانت مش في مصلحته. لازم تلاقي طريقة لإقناعه إنه لازم يراجع أخصائي ويعمل الفحوصات اللازمة وياخد العلاج. أنت سليمة وما فيكي شي والباقي على جوزك“
خرجت من عيادة الطبيبة وهي تفكر كيف ستنقل الخبر إليه وكيف ستستطيع أن تقنعه بما طلبته الطبيبة
* * * * * * *
تنحنحت عدة مرات لتستجمع شجاعتها .. من لحظة دخوله البيت عائدا من عمله في ساعة متأخرة كعادته وهي تحاول أن تستجمع شجاعتها لتفتح معه الموضوع .. وأخيرا خرج صوتها مرتجفا خافتا كأنه ليس منها:
- ”كنت اليوم عند الدكتورة ..“
وبعد أن أكملت هذه الجملة مباشرة أصابها الرعب وندمت ولكن ما حصل قد حصل وليس باستطاعتها أن تمحو الصوت الذي خرج من فمها كما لو كان مكتوبا بقلم رصاص على ورقة ..
لم ينبس ببنت شفة .. نظر إليها لثوان وكأنه يطلب منها أن تكمل ما بدأته ولكنه سرعان ما أزاح نظره عنها وتشاغل بمتابعة ما يعرض على شاشة التلفاز ..
استمر صمت كأنه دهر .. آه كم يستفزها ويغضبها صمته .. استمدت من غضبها بعض الشجاعة لتقول
- ”أرجوك إحنا لازم نحكي“
- ”إحكي .. مين مانعك؟“
- ”كنت اليوم عند الدكتورة ..“
- ”قلتيها قبل شوي وسمعتك“
- ”طيب ليش عملت حالك مش سامعني؟“
- ”إحكي اللي بدك تحكيه وخلصيني .. تعبان وبدي أنام“
- ”طيب .. اسمعني .. الدكتورة بتقول أنا سليمة وبقدر أخلف“
- ”طيب؟“
قالها بعصبية فتمنت لو أن الأرض انشقت وابتلعتها .. ولكن ما حصل حصل ولا مجال للتراجع ..
- ”حبيبي لازم انت تفحص وتشوف دكتور .. يمكن عندك شوية ضعف .. بتتعالج وكل شي بيصير تمام .. يا حبيبي!“
احمر وجهه وصاح بصوت كأنه الرعد:
- ”اخرسي! أنا ما بشكي من شي“
- ”يا حبيبي أنا ما قلت إنك بتشكي من شي .. أنا قلت إذا عندك شي بتتعالج“
- ”قلتلك ما عندي شي“
ثم بصوت كله استهزاء وسخرية: ”مش بكون زي الثور لما بنام معك؟“
- ”الدكتورة بتقول مو شرط .. يمكن عندك ضعف بـ .. انت فاهم ..“
- ”مش رايح“
- ”لازم تروح“
- ”شو ناقصك؟“
- ”بدي أخلف .. الجارات أكلوا وجهي .. ما في قعدة إلا بيجيبوا سيرة الخلفة وبيبلشوا يرموا كلام إنو أنا ما بقدر أخلف“
- ”اللي بقولك هاد الكلام ما بيفهمش .. لا تختلطي بيهم“
- ”إمك وخواتك بيقولوا نفس الكلام“
سكت .. أغمض عينيه كأنه نائم ..
- ”لا تنام .. ما خلصنا حكي“
- ”مبلا خلصنا“
- ”لأ ما خلصنا .. من حقي أطلب منك هالشي .. قوم لا تعمل حالك نايم .. وفي كمان موضوع تاني لازم نحكي فيه“
- ”موضوع شو؟ خير انشالله؟“
- ”بدي أكمل دراستي“
- ”أهلن أهلااااااااااااان! يا حبيبي! أكيد إمك رجعت تلعب براسك“
- ”إمي ما إلها دخل .. أنت لما أخذتني بابا شرط عليك تسمحلي أكمل دراستي وانت وافقت“
- ”أبوكي ألله يرحمه“
- ”شو يعني؟“
- ”يعني تكميل دراسة ما في“
- ”بس انت وعدت بابا“
- ”وعدت ورجعت بكلامي“
- ”ما بيصير“
- ”مبلا بيصير“
- ”لأ ما بيصير .. الزلمة بيرتبط من لسانه“
- ”أنا زلمة غصب عنك وعن اللي جابوكي وله“
- ”وصلني ع دار أهلي“
- ”ما راح تطلعي من هالبيت“
- ”مبلا طالعة .. وما راح أدخل هالبيت مرة تانية .. ليش هوي هاد بيت؟ حاسبو عليي بيت يا محترم؟ لما تصير زلمة بتعرف دار أهلي“
- ”انتي من زمان بتكرهي أهلي .. ما بدك تعيشي معهم .. والله والله والله لو يطلع براسك شجرة ما بيصير اللي براسك“
- ”إذن طلقني“
- ”نعم نعم نعم .. شو تفضلتي؟ تفكريني أهبل ومش عارف نيتك انتي وإمك .. بدك اياني أطلقك عشان تروحيله مش هيك؟ طلاق ما في .. واللي في راسك انسيه ولا عمرك تحلمي فيه“
- ”وصلني عند دار أهلي“
- ”بتعرفي الطريق لحالك“
- ”بس الدنيا نص ليل!“
- ”نص ليل ولا نص خرا .. اقلبي وجهك لحالك أو بتنادي حدا من إخوانك ييجي ياخدك“
دخلت غرفة النوم .. وضعت بعض ملابسها وأغراضها الضرورية في حقيبة صغيرة .. فتحت الباب .. وابتلعها الظلام
* * * * * * *
لم تطل إقامتها في بيت أهلها .. فقد أفهمت بكل الطرق الصامتة أن وجودها غير مرحب به .. وأن عليها أن تعود بأسرع ما يمكن إلى بيت زوجها. وأصبح كل أملها أن يتصل بها .. ستعاتبه .. وسيعتذر .. وسينتهي كل شيء .. هكذا كانت تمني نفسها .. وفي اليوم السابع دخلت أمها عليها غرفتها .. فهمت من نظرات عينيها أن ثمة أمر خطير تريد إخبارها به ..
- ”أهلا ماما .. هاتي اللي عندك“
- ”مش عارفة شو بدي أحكي“
- ”إحكي ماما ولا تخافي .. صرت متوقعة أي شي“
- ”ماما الناس بتحكي إنو إمه بتدورله على عروس .. وأنا شايفة أحسن شي تتفاهمي معه وتلمي الموضوع بسرعة قبل ما يتطور ونقول يا ريت اللي جرى ما كان“
- ”طيب ماما مش مفروض ع الأقل يتصل ويعتذر؟“
- ”ماما إفرضي ما اتصل ولا اعتذر؟ بتخربي بيتك بإيدك؟ ماما البنت ما إلها إلا بيت جوزها ..“
- ”بس يا ماما ..“
- ”اسمعي مني ألله يرضى عليكي .. شو ما كان الوضع بيت جوزك أولى بيكي“
- ”بس يا ماما ..“
- ”لا تبسبسي ولا عبالك .. أنا قلت اللي عندي وإنتي حرة .. لا تلوميني بعدين إني ما حذرتك!“
* * * * * * *
في تلك الليلة لم تنم .. تذكرت كل تفاصيل حياتها معه .. استعرضت كل التفاصيل الصغيرة كأنها شريط الأخبار المتحرك في أسفل شاشة تلفاز ..
وفي الصباح اتصلت هي به ..
- ”شو بدك؟“
- ”ليش ما إجيت؟“
- ”وليش آجي؟“
- ”عشان نتفاهم“
- ”ارجعي ع بيتك وبعدين بنتفاهم“
- ”طيب تعال خدني“
- ”ليش إنتي ما بتعرفي الطريق؟“
- ”مبلا .. بس الأصول انت تيجي تاخدني“
- ”مش جاي .. بدك ترجعي ع بيتك البيت مفتوح .. ما بدك انتي حرة“
وأقفل الموبايل ..
* * * * * * *
في نفس الليلة عادت .. عادت لأنها كان يجب أن تعود .. لم يعتذر .. لم يعد بأي شيء .. .. عادت لوحدها كما خرجت لوحدها .. وعندما دخلت كان هو هناك .. مضطجعا على الأريكة الطويلة في غرفة الجلوس .. وعيناه تتجنبان النظر إليها .. وتحملقان في شاشة التلفاز ..
وفي تلك الليلة أيضا كان عنيفا أكثر من أي مرة أخرى .. وكالعادة لم يقبلها .. وكالعادة لم يقل لها أي كلمة حب أو غزل أو إطراء .. وكالعادة لم يعرف من طقوس المجامعة إلا الإيلاج فالانتهاء السريع بلا أي مراعاة لأي شيء .. وكالعادة سرعان ما انقلب على ظهره لاهثا ثم غط في نوم عميق ..
إذن هي نهاية كل أمل لها في أن تضم بين ذراعيها فلذة كبدها .. وهي نهاية كل أمل في أن تكمل دراستها .. ذلك الحلم الذي طالما نامت عليه وأفاقت عليه .. وهي نهاية كل أمل في أن يكون لها بيتها الخاص الذي تكون فيه ملكة لا يشاركها فيه أحد أي شيء ..
* * * * * * *
بعد أن استغرق في نومه العميق لم تستطع هي أن تنام في تلك الليلة
كانت تنظر إليه وتتساءل .. هل هو نفسه ذلك الذي سحرتها نظرات عينيه وارتباكه الطفولي عندما لامست كفه كفها في ذلك اليوم البعيد؟
وهل هو نفسه الذي كان حريصا عندما كان يزورها في بيت أهلها على أن لا يشرب القهوة إلا من يديها؟ وعلى أن تودعه هي بنفسها لوحدها عندما يريد الخروج .. ليضع كفها في كفه .. وليحاول أن يسترق نصف قبلة في غفلة من أهل الدار؟
إنه نفس الوجه .. ونفس الجسد ..
فأين إذن ذهبت لهفته لرؤيتها عندما كان يتصادف ركوبها في سيارة أجرة غير سيارته؟ وأين ذهبت وعوده لأبيها بأن يسمح لها بأن تكمل دراستها حتى الدكتوراة إن شاءت؟ وأين ذهبت وعوده لها بأن تكون لها مملكتها الخاصة بعيدا عن بيت أهله الذي استسمحها قبل انتقالها إليه بأن يكون ممرا لا مقرا؟
هل يعقل أن يكون هو نفسه الذي قال لها إنه لا يمكن أن يسمح لها بإكمال دراستها لأنها ستتركه لا محالة إن هي حققت طموحها؟
وهل يعقل أن يكون هو نفسه الذي كان يمنعها من الوصول إلى ما يجب أن تصل إليه أية امرأة بين ذراعي زوجها بحجة أن ليس من حقها أن تصل كما يصل ولا أن تقارن نفسها به؟
سمعت أذان الفجر فقامت وهيأت نفسها للصلاة .. صلت وعادت إلى سريرها ..
وقبل موعد استيقاظه بنصف ساعة غلبها النوم