تحاشيته كثيراً ولكنني أخيراً وجدت نفسي معه وجها لوجه في السوبرماركت القريب من بيتي والمسجد الذي يؤم فيه ..
- والله عاش من شافك يا رجل .. وين هالغيبة؟
قالها بلهجة استنكارية
- مشاغل والله يا شيخ
- لا بارك الله في عمل يلهي عن الصلاة
قالها مؤنبا
- يا شيخ أنا أصلي في البيت
- لا صلاة لجار المسحد إلا في المسجد
تفاديت عينيه وتشاغلت بالبحث على رفوف السوبرماركت عن لا شيء .. ظننته حلّ عني ولكنه أضاف:
- اتق الله يا رجل وصلّ قبل أن يصلى عليك
لم أعد أحتمل فانفجرت:
- بصراحة لم أعد أطيق التواجد في مكان تكون فيه. لكي أصلي خلفك يجب أن أحبك وأحترمك. وأنت للأسف لم تعد أهلا لا لهذه ولا لتلك
نظر إلى بحقد. وهز رأسه وذهب
في مساء اليوم التالي جاءني تبليغ بوجوب مراجعة الجهة الأمنية ذاتها التي راجعها أبو عمر قبل أن يضطر ذووه إلى إدخاله مستشفى الأمراض النفسية
* * * * * * *
جمع مختار الحارة الشرقية وجوه الحارة في مضافته .. وأصر على أن يتواجد ”الجميع“ ..
- يا إخوان .. نحن أسرة واحدة .. والقادمون من الحارة الغربية هم منا وفينا .. لهم ما لنا وعليهم ما علينا .. صحيح أن مياهنا ”على قدنا“ .. ولكن القادمين من الحارة الغربية هم منا وفينا .. لهم ما لنا وعليهم ما علينا .. صحيح أن مولدات الكهرباء ”يا دوب“ .. ولكن القادمين من الحارة الغربية هم منا وفينا .. لهم ما لنا وعليهم ما علينا ..
تنحنح ”عبد الكادر“ وهم بالكلام ولكن خلف قاطعه قائلا: أخ عبد الكادر رجاءً لا داعي للكلام .. ما ستقوله مرفوض جملة وتفصيلاً .. الحارة أصلا ما فيها شغل والبطالة نسبتها فوق الريح وأنت تعلم .. وليس صحيحا ما ستقوله من أن القادمين من الحارة الغربية لا يجدون أحدا يشغلهم .. يا عيب الشوم على هالحكي يا عبد الكادر .. أنتم ضيوف وشرفتمونا وأنتم منا وفينا .. لكم ما لنا وعليكم ما علينا.
تنحنح المختار وقال: يا جماعة ”لا تفهمونا غلط“ .. ولكن لأمور تنظيمية بحتة قررنا أن على القادمين من الحارة الغربية أن يربطوا على أذرعتهم ”شريطة خضراء“
* * * * * * *
كان عبد القادر جالسا على باب ”دكانته“ التي احتلت الناصية الواقعة عند التقاء ”زاروبتين“ من ”زواريب“ المخيم ..
وكانت الشمس قد ظهرت بعد يومين من الإحتجاب وراء الغيوم التي أمطرت في كل الدول المجاورة وأبت أن تحنّ على المخيم وما جاوره من بقاع بنقطة واحدة ..
أما ”الكرسي“ الذي كان جالسا عليه فلم يكن إلا ما كانت في يوم من الأيام تنكة سمنة، أصبحت فيما بعد تنكة ”باطون“ استخدمها عمال ”الصبة“ بعد أن نزعوا إحدى قاعدتيها وثبتوا على إحدى جوانبها خشبة بمسامير لتسهيل عملية مسكها أثناء استخدامها في نقل الباطون من مكان الخلط إلى مكان الصب.
وجلس على ”كراسي“ مشابهة تماما جلاسه الذين جاءوا تباعا .. كان أولهم الشيخ حامد، إمام وخطيب ومؤذن وخادم الجامع القريب، يحمل راديو الترانزستور الذي لا يفارق مؤشر المحطات فيه محطة ”البي بي سي“، لكي يبقى على اطلاع دائم على ما يجري، لأن ”من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم“ .. ثم الأستاذ يحيى وهو أستاذ عربي متقاعد يحفظ كل أشعار الفخر والحماسة إبتداء من ”إذا بلغ الفطام لنا رضيع تخر له الجبابر ساجدينا“ وليس انتهاء ب ”نيرون مات ولم تمت روما بعينيها تقاتل“ .. يليه أبو عمر السياسي المزمن والذي لا يخرج من السجن إلا في ”إجازات قصيرة“ كما يصفها هو، ليعود إليه يملؤه الحنين لأنه كما يصف نفسه ”خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا لغادرت شيبي موجع القلب باكيا“.
أما إبريق الشاي فقد كان في مكانه المعتاد على سيخين مقتطعين من قضبان حديد التسليح وممددبن على غطاء تنكة باطون أخرى تملؤها قطع من الطبش التي لم تعد صالحة للاستعمال كخشب طوبار فجيء بها لكي تواجه مصيرها المحتوم وقودا للنار ..
وفي موعدها شبه الثابت جاءت ”الحجة زريفة“ .. لا أحد يعرف عنها أكثر من اسمها ومن أن لها ولدا في الكويت .. حتى هي لم تعد تعلم عنه إلا ما يعرفه أهل المخيم .. ف ”الولد“ يبدو أنه قد نسي المخيم وكل ما فيه حتى ”الحجة“
- ”تتجوزيني يا حجة زريفة؟“
سألها الشيخ حامد نصف جاد ونصف مازح
- ”أبنزلش ضرة ع ثلث نسوان“
ردت عليه الحجة زريفة نصف جادة ونصف مازحة ..
لم تطل الحجة زريفة المكوث .. أخذت أغراضها وعادت إلى ”براكية الزينكو“ سريعا .. فهما قد أصبحتا - بعد 43 عاما - أكثر من صديقتين.
* * * * * * *
كأننا في فيلم كابوي من تلك الأفلام التي لا تمل دور السينما عندنا في المخيم من عرضها ..
كل شيء حدث فجأة ..
مجموعة من الشباب المذعورين يتراكضون بلا هدي في زواريب المخيم .. كل ما يهمهم أن يختبئوا من سيارات دوريات الدرك التي تطاردهم ..
ثوان قليلة امتلأت الزواريب برجال الدرك يحملون الهراوات والأسلحة ..
دخل شاب إلى دكانة عبد القادر وهو يلهث وعيناه زائغتان ..
- ”عمو خبيني الله يرضى عليك!“
- ”ولك شو في؟ اهدا اهدا لا تخاف بس احكيلي شو في؟“
- ”عمو نزّل الحديد يستر ع ولاياك .. الدرك لاحقيننا“
أنزل عبد القادر باب الحديد بعد أن دخلوا جميعا إلى الدكان .. ولكن الغاز الذي أطلقة الدرك في زواريب المخيم أجبرته على أن يرفع الحديد ويفتح الباب لئلا يموتوا اختناقا ..
- ”تعال جاي يا عرص يا ابن العرص“
قال أحد رجال الدرك وهو ينزل بهراوته على رأس الشاب وجسده. ثم اقتاده جرّاً إلى السيارة
- ”انتو كنتو كمان هناك؟“
سألهم الضابط
- ”لا والله يا سيدي إحنا من الصبح قاعدين هون في الدكان“
أجاب عبد القادر ..
- ”هوياتكو“
أعطوه هوياتهم .. أخذ يتمعن فيها وفي وجوه أصحابها واحدا واحدا ..
- ”وانت؟“
قال الضابط لأبي عمر
- ”أنا ما معي هوية“
- ”ليش وين هويتك؟“
- ”سيدي هاظ زبون عندنا“
قال الدركي
- ”هيك يعني؟ طيب ممتاز .. شرف معنا!“
واقتادوا أبا عمر
* * * * * * *
بمجرد إدخال أبي عمر والشاب إلى سيارة الدرك وضعوا عصابتين على عيونهما وقيدت أيديهما خلف ظهريهما. كان في السيارة آخرون .. سارت السيارة بهم إلى مكان ما وأنزلوا من السيارة واقتيدوا تحت الصفعات والضرب بالبساطير وأعقاب البنادق إلى مكان مظلم ورطب وعابق بدخان السجائر والروائح الكريهة ..
كانوا يقتادونهم واحدا واحدا إلى مكان مجهول في الطرف الآخر من المبنى .. حيث يبدأ التحقيق والضرب والصراخ ..
وعندما اقتادوا الشاب سمع أبو عمر صوته وهو يصرخ من الألم .. استمر الشاب يصرخ لفترة ثم سمع أبو عمر صوت صرخة عالية اهتزت لها قلوب من كانوا محتجزين في ذلك المكان .. ثم ساد هدوء مخيف.
بعد وقت حسبه أبو عمر دهرا جاءوا واقتادوه .. أدخلوه إلى غرفة حيث قام الدركي بإيقافه في منتصفها. جاءه صوت:
- ”انت كنت هناك مش هيك؟“
- ”لا طبعاً هاظ الكلام مش صحيح. انا كنت في الدكان اللي اخذتوني منها. وكان معي شهود!“
- ”مش قلبل والله .. شكلك راح تغلبنا كثير“
ثم بعد قترة صمت ..
- ”فكوا العصبة عن عينيه“.
عندما فكوا العصبة عن عينيه كانوا يمسكون به من الخلف بحيث لم يتمكن من رؤية وجوههم. لم يكن يتمكن من النظر إلا إلى الأمام حيث رأى الشاب ممددا على بطنه على سرير عسكري .. وكان ثمة فتحة مستطيلة في بنطلونه وسرواله الداخلي وكانت مؤخرة الشاب ملطخة بالدم.
أعادوا العصبة إلى عينيه .. ثم جاءه الصوت:
- ”ما في فايدة من الإنكار .. كل إشي واضح والأدلة كلها ضدك .. إعترف أحسنلك“