2012/02/23

الغضيب

كانت – كأي أم تحب أبناءها مهما فعلوا – تحبني .. ولكن شقاوتي الزائدة كثيرا ما كانت تخرجها عن طورها فتعصب علي .. وعندها .. عندها فقط .. يصير اسمي (الغضيب) ..

إذن لم أكن غضيبا بالمعنى الحرفي للكلمة .. ولكنه ما كانت تناديني به عندما تعصب .. ثم .. ما كانت تحب أن تناديني به عندما (تكون غزالتها سارحة) فيحلو لها المزاح وتطيب لها المداعبة ..

في تلك الأيام لم تكن ربات البيوت يمتلكن غسالات .. لا أوتوماتيكية ولا نصف أوتوماتيكية ولا حتى ربع أوتوماتيكية .. كانت الأم تجمع كل ”الأواعي“ التي تحتاج إلى غسيل في كومة على يمينها .. وتجلس على ”المفرمة“ وهي مقعد خشبي لا يزيد ارتفاعه عن عشرين سنتيمترا يشبه ما تفرم عليه البندورة والملوخية والخبيزة والسبانخ وكل ما يحتاج قبل الطبخ إلى فرم .. وأمامها (لكن) الغسيل المصنوع من الحديد فتضع فيه الملابس التي على دور الغسيل قطعة قطعة .. بعد أن تملأ (اللكن) إلى منتصفه بالماء الساخن والصابون أو التايد .. بينما يكون (البريموس)أو (البابور) يسخن الماء اللازم للغسيل بينما يدوي بصوته ”الطارش“ لكل من استمع إليه ما لم يكن ”بابورا أخرس“ ..

في ذلك اليوم نسيت أمي أن تفرغ جيوب بنطلوناتي وقمصاني مما قد يكون فيها .. و(ما قد يكون فيها) يشمل قطع الزجاج الملون وما في حكمها كشقف الصحون أو الفناجين التي رسمت عليها رسوم زهور أو نساء مثلا .. و(الكلول) .. والمسامير والبراغي الغريبة الشكل .. وقطع الحصى الملونة الجميلة أو شحف حجارة (الصوان) الصلبة القاسية اللامعة .. والكثير الكثير مما اعتبرته في حينه مما خف وزنه ولم يغل ثمنه ..

إذن فقد نسيت أمي في ذلك اليوم تفريغ جيوبي .. وضعت الأواعي في (لكن) الغسيل وباشرت الدعك والفرك .. وما هي إلا أن علا صوتها متألمة متوجعة عندما شطفت كف يدها قطعة مبوزة حادة الأطراف مما كانت تحفل به جيوبي من كنوز ..

يومها .. نعم يومها .. احمر ماء الغسيل ووجهها ناصع البياض .. وقدحت عيناها شررا – ونادرا ما تفعل – .. وأقسمت أن لا تترك لي بنطلونا ولا قميصا بجيوب ..

في عصر ذلك اليوم .. جلست أمي (وقد عصبت كفها الجريح) إلى ماكينة الخياطة اليدوية (السنجر) .. وفي أقل من نصف ساعة قامت بخياطة كل ما كان لملابسي من جيوب ..

فيما بعد .. ونزولا عند توسلاتي ووساطة بعض الجارات .. أعادت أمي فتح بعض تلك الجيوب .. بعد أن أخذت مني الوعود والعهود وأغلظ الأيمان على أن لا أعيدها ..

ولا أظنني فعلت ..