وأخيراً انتهت إجراءات دخولي إلى جهنم، وبدأت الشعوطة .. صرت أصرخ: آآآخ يا يماااااا .. آآآخ يا يابااااا .. اقترب مني أحدهم وهمس: بالله عليك منت من الأردن؟ أجبته: آه ليش بتسأل؟ قال: الدم ع الدم بحن يا قرابة .. وصمت هنيهة ثم نظر إلي بحذر وقال: انت منين بالزبط (بلا زغرة) خيّو؟
باستثناء عدد قليل جداً من أصدقائي ومعارفي، فإن شلتي هنا (في الجحيم) هي ذاتها شلتي سابقاً (على الأرض). وفي الاستراحات ما بين الشعوطة والشعوطة نجتمع، نتبادل النكات، يخرج احدهم من جيب معطفه الداخلية ربعية ويسكي، ويقدمها إلي. أعتذر قائلاً: أعووووذ بالله! شو هاظ؟ حرااام. يضحك ويقول: الأهبل بيظلو أهبل. ولك مهو فات ابصرشو في تبعت ابصر مين وبعدك بتقول حرام وحلال؟
بمرور الوقت، تعودنا على الحياة في الجحيم .. وكلما التحق بنا وافد جديد تحلقنا حوله نسأله عن الأرض وما استجد فيها من أحداث. وعلى الرغم مما وردنا من أخبار عن تصالح أمراء الحروب هناك على الأرض والصور التي التقطت لهم متعانقين مبتسمين إلا أن أنصارهم هنا في الجحيم ظلوا يشتبكون في عراكات بعضها لا يخلو من دماء ورضوض.
وفي الحقيقة لم يختلف هنا في الجحيم من أحوالنا هناك على الأرض شيء. فالحارات هي الحارات، والنوادي الرياضية هي النوادي الرياضية، وما زالت الجفوة هنا بين اليمين واليسار قائمة والمعارك مستعرة. وما زالت الحركة الإسلامية تتصدر الانتخابات وتكتسح الأصوات
وفي الجحيم انترنت .. وفيه فيسبوك أكثر تطوراً .. فمع الصوت الساحر والصورة الحية الفاتنة تصلك روائح العطور، فتنتشي وتتجدد، وتبقى وتتمدد.
في الاستراحة بين عذاب وآخر، قلت لها: كم أنت جميلة يا صغيرتي! لمعت عيناها ابتهاجاً .. ولكنها أدارت وجهها إلى الجهة الأخرى وهي تغمغم: دب .. كنت دائماً دباً .. وستبقى كذلك.
وقال لي واحد من دواعش الجحيم: يا هذا. أنت مسلم أم نصراني؟ سألته: ولم تسأل؟ فقال: إن كنت مسلماً تتبعنا أو قتلناك، وإن كنت غير ذلك فعليك الجزية.
وكنت عائداً من وصلة عذاب عندما اعترضت طريقي مجموعة ملثمة .. طلبوا بطاقتي الشخصية فأبرزتها .. دقق فيها كبيرهم ثم سألني: محمد رشدي؟ فقط؟ محمد رشدي ماذا؟ أين اسم عشيرتك؟
ركبت في زاويتي من الجحيم كوندشن كنت قد نجحت في تهريبه عند دخولي .. قاطعني الرفاق باعتباري ”برجوازياً قذراً“ .. ولكن أحدهم صاح فيهم: أيها الأغبياء، البرجوازية ليست شراً مطلقاً. بل إن لها دوراً طليعياً في بعض مراحل النضال. ولم يترك مجلسه تحت الكوندشن بعد ذلك قط.
ضبطتُها تنظر إلي .. ابتسمتُ فابتسمتْ بارتباك. جلست بلصقها فهمستْ: ماذا تريد مني؟ أجبتها: لا شيء، وكل شيء. احمرت وجنتاها وقالت: أيها المراوغ .. أين سيأخذنا تهورك؟ فقلت: وهل بعد الجحيم جحيم؟