الشعر فن أداته اللغة، إلا أنه قد يندمج في أوركسترا مع غيره من الفنون، كالموسيقى والرسم والصورة والمنحوتة، لينتج عن ذلك كله عمل فني شمولي متكامل.
فالأغاني، مثلاً، ليست صوت المغني فقط .. ولكنها أيضاً كلمات الشاعر، وألحان الموسيقار. ولكننا للأسف لا نتذكر غالباً إلا الصوت وصاحبه، وقد نتذكر الموسيقار، فيما يقبع الشاعر في غياهب النسيان!
القافية والموسيقى بالنسبة للقصيدة، كالكحل وأحمر الشفاه بالنسبة للمرأة .. جميلان بلا مبالغة .. بمعنى انهما مفيدان في ابراز الجمال وليسا الجمال بحد ذاته. لقد كتب الشعراء قصائدهم قبل الخليل بن أحمد، كتبوها على السماع. لم يكونوا يعرفون التفعيلات ولا البحور ولا العروض. الشعر شعور وموسيقى ولغة سليمة وما عدا ذلك تفاصيل.
ومما يجدر الانتباه له، أن قريشاً اتهمت النبي في جملة اتهاماتها له، بأنه شاعر، وبأن القرآن شعر. وهذا ما يؤكد لي أن العرب منذ القدم لم تكن تشترط للشعر أن يكون موزوناً ومقفى.
أما شعر العامية فلا يقل جمالاً ولا أهمية عن شعر الفصحى .. بل إنه أقرب إلى القلوب .. وأقدر في الوصول إلى الألباب. ذلك أنه باللغة المتداولة، لا بلغة المعاجم والقواميس.
ليس كل نظم شعراً وإن خلا من أخطاء الوزن والقافية. وليس كل نثر شعراً أيضاً .. الشعر هو كل ما خاطب شعورك، واستفز مشاعرك، وحولك (ولو لثوان معدودات) إلى عالم آخر، أقرب إلى الحلم وتهويماته، وأبعد من الواقع ومعقولاته.
ما كل من عزف أطرب، ولا كل من كتب أعجب. وإن التفاهة لا تخرج إلا من سفاهة، مهما ادعى صاحبها من حكمة ووجاهة.
فالنظم الذي يتكسب به من يمدح شخصاً أو جماعة ليس شعراً. وما هو بشاعر. بل مسترزق بضاعته الكلام.
وعلى فكرة .. فالسخافات والتفاهات ليست محصورة في الشعر الحديث. وإلا فماذا يمكن أن يسمى مثل هذا الكلام: فغض الطرف إنك من نمير فلا كعباً بلغت ولا كلابا؟
وما زلنا نردد مع المتنبي تافهته ”لا تشتري العبد إلا والعصا معه ..“ دون أن نعي أننا نهوي بهذا القول إلى حضيض عنصرية مقيتة.
لا يلغي أي شكل شعري أي شكل شعري آخر .. إنها كائنات قابلة للتعايش .. ومن الممكن أن يتنقل الشاعر بين شكل شعري وآخر حتى في القصيدة الواحدة. ولا معنى للمفاضلة بين أشكال الشعر .. العبرة في تمكن الشاعر وميله الشخصي.
اكتب فيما انت منه اكثر تمكنا. ولكن لا تقلد. فعندما قال أبو نؤاس: قل لمن يبكي على رسم درس واقفا ما ضر لو كان جلس .. كان بذلك يعلن ثورته لا على الشعر الجاهلي بل على شعراء عصره من المقلدين.
لقد كتبت الموزون وغير الموزون وكتبت بالعامية والفصحى. ولا استطيع ان اعتبر الموزون كله تقليدا. هناك تقليد حتى في غير الموزون. المسألة معقدة اذ لا يصح اعتبار كل موزون تقليداً ولا كل منثور تجديداً وابداعا
الشعر إبداع لا تقليد. تجديد لا ترديد. استيعاب للماضي لتغيير الحاضر على صورة المستقبل الذي نريد.