إنه يوم الجمعة ..
ومن نافذة غرفتي، تتداخل الأصوات القادمة من المساجد المحيطة ..
أصوات الأذان مع أصوات الدروس الدينية مع أصوات الخطب مع أصوات الأدعية مع أصوات الإقامة مع أصوات الصلاة مع أصوات المتسولين التي تنطلق بمجرد انتهاء السلام الثاني ..
إنه يوم الجمعة ..
أصوات .. أصوات .. أصوات .. أصوات .. أصوا.... أصو.. أص...
ثم .. يسود هدوء رهيب .. في انتظار الجمعة القادمة.
.. ومع أصوات المتسولين التي تنطلق مباشرة بعد التسليم الثاني .. كنت أسمع أصوات الباعة.. ولكن ذلك زمن مضى ..تلاه زمن كنت أسمع فيه (مع أصوات المتسولين والباعة) أصوات مراقبي ما لا أعلم من الجهات الرسمية، ينتهرون الباعة، يتشاجرون معهم، ثم يحملونهم - هم وما يحاولون بيعه للخارجين من المساجد - في أقفاص .. ولكن ذلك أيضاً زمن مضى .. ثم اختفت أصوات الباعة وأصوات المراقبين ولم تبق سوى أصوات المتسولين.
من النافذة التي تحمل لي أصوات المساجد والمتسولين، أحاول أن أحصل على حاجتي من الأوكسيجين ..
فأفتحها على مدار العام .. على مدار الشهور .. على مدار الأسابيع .. على مدار الأيام .. على مدار الساعات .. على مدار الدقائق .. على مدار الثواني .. على مدار الـــ......
ولكن الأوكسيجين الذي تدخله غير كافٍ .. أو ربما كانت حاجتي أكبر مما تستطيع تلك النافذة إدخاله .. فأفتح الباب المقابل ليكون هناك تيار من الهواء .. من الأوكسيجين .. أعب ما استطعت من الهواء لأملأ رئتيّ .. فأختنق .. فأشغل مروحة السقف البليدة.
أتذكر، في الطفولة، ولكن هل مررت، أنا، فعلاً بالطفولة؟ .. إذاً تصحيح بسيط - في الماضي الذي يسمونه طفولة - .. في الطفولة (مجازاً) .. في الطفولة (اعتباطاً) .. في الطفولة (مكابرة) .. في الطفولة (والسلام) .. في الطفولة (اختصاراً) ..
أتذكر ..
ولكن .. ماذا أتذكر؟ آه .. تذكرت .. أتذكر أبي .. نعم .. كان لي أب .. مع أنه لم يكن لي أب .. كان لي أب (مجازاً) .. أب (اعتباطاً) .. أب (مكابرة) .. أب (والسلام) .. أب (اختصاراً) ..
أتذكر .. إذن .. أنه في يوم جمعة .. ضربني لأنني لم أصلّ صلاة الجمعة .. ضربني (فعلاً) .. لا مجازا .. ولا اعتباطاً .. ولا اختصاراً ..
أتذكر يومها .. أنني ذهبت إلى صلاة العصر .. بلا وضوء.
وأتذكر أيضاً .. أنه .. وفي يوم جمعة أخرى .. غير تلك الجمعة التي ضربني أبي فيها لأنني لم أصل الجمعة ، فصليت العصر بلا وضوء ..في غير تلك الجمعة .. ليس بعد صلاة الجمعة .. وليس بعد صلاة العصر مباشرة .. ولكن في وقت ما قبل الغروب الكئيب .. وكل غروب كئيب .. أن سيارة شرطة اصطفت على باب الحوش ..
نعم كان لنا حوش .. لم يكن لنا حوش .. كان حوشاً مجازاً .. مكابرة .. اصطلاحاً .. لأنه لم يكن لنا .. المهم .. كان الحوش يحيط بالبيت ذي السقف المنخفض .. ليس بيتاً فعلاً .. هو بيت مجازاً / اصطلاحاً / مكابرة / بيت والسلام ..
المهم .. أقتادوا أبي .. في يوم الجمعة .. إلى حيث لا ندري
وأتذكر أيضاً ..
أنه في يوم جمعة .. غير تلك الجمعة التي اقتادوا فيها أبي .. وغير تلك الجمعة التي ضربني فيها أبي لأنني لم أصلّ الجمعة فصليت العصر بلا وضوء .. نعم .. في جمعة أخرى .. كئيبة .. وكل الجمعات كئيبة ..
ماذا أتذكر؟
نعم .. تذكرت ..
ضربني أبي لأن زوجته الثانية .. (نعم .. فقد كانت لأبي زوجة ثانية ) ..
في الحقيقة .. كانت له عدة زوجات .. نعرف بعضهن .. ونجهل الأخريات ..
لماذا ضربني أبي؟
آه .. تذكرت ..
كان غاضباً من شيء ما ..
من شيء لم تكن لي به أية علاقة ..
ضربني لسبب مازلت أجهله ..
ولكن .. كل ما أذكره .. أن زوجة أبي الثانية .. اشتكت له أنني أكلت من صفط السلفانا الذي كانت تخبئه تحت السرير.
إذاً .. ففي يوم الجمعة .. الجمعة التي تدخل فيها أصوات المساجد والمتسولين إلى غرفتي عبر النافذة .. الجمعة التي ضربني فيها أبي لأنني لم أصل الجمعة فصليت العصر بلا وضوء .. الجمعة التي اقتادوا فيها أبي .. الجمعة التي ضربني فيها أبي لسبب ما زلت أجهله وكل ما أذكره أن زوجته الثانية اشتكت له أنني أكلت من صفط السلفانا الذي كانت تخبئه تحت السرير .. في يوم الجمعة الكئيب .. وكل أيام الجمعة كئيبة .. في يوم الجمعة ضربني أبي لأن البعثيين انقلبوا على عبد الرحمن عارف.
نعم .. لم يقل ذلك طبعاً .. ولكنه قال بأنه يضربني لأنني تجاهلت طلباً بالذهاب للسوق لشراء دجاجة.
وفي جمعات أخرى .. كانت أمي تأخذني معها للزيارة ..
زيارة أبي ..
زيارة أبي في سجن ..
زيارة أبي في سجن المحطة ..
زيارة أبي في سجن المحطة لسبب ما ..
زيارة أبي في سجن المحطة لسبب ما .. عرفته لاحقاً
فقد كان يسعى لإقامة الخلافة!!!
كنت في الثانية عشرة .. عندما أخذتني أمي إلى موظف كبير في الوزارة ..
الموظف الكبير في الوزارة أعطاني بطاقة جميلة عليها اسمه وأشياء أخرى
وفي يوم الجمعة .. أخذت البطاقة الجميلة التي عليها اسم الموظف الكبير في الوزارة وأشياء أخرى إلى صاحب مطعم
في يوم الجمعة .. قرأ صاحب المطعم البطاقة الجميلة التي عليها اسم الموظف الكبير في الوزارة وأشياء أخرى .. ونادى جمعة
في يوم الجمعة .. أخذني جمعة إلى الجهة الخلفية من المطعم .. حيث أكوام الطناجر والصحون
في يوم الجمعة .. ألبسني وزرة جلدية وصلت الأرض
وبدأت عملي في غسل الطناجر والصحون
تتالى الجمعات ..
جمعة تلي جمعة ..
في أحداها دفنت أسامة الصغير .. لم أدفنه بيدي .. دفن أمامي .. لم يدفن أمامي .. فقد ظللت بعد سماع خبر موته طريح الفراش .. عاجزاً عن الحركة جمعة بعد حمعة بعد جمعة بعد جمعــــــــــــــــــــــــــــــــــ ..
في إحداها دفنت أمي .. بيدي
وفي أخرى دفنت أبي .. لم أدفنه بيدي .. لم يدفن أمامي .. فقد كنت مشغولاً بمحاسبة المستشفى وسيارة نقل الموتى وحفار القبور والوقوف أمام طوابير القادمين والمغادرين لإتمام طقوس السلام والتقبيل ..
أبي .. الذي ....
أبي .. الذي ....
تتالى الجمعات .. جمعة تلي جمعة .. كئيبة .. وكل الجمعات كئيبة.
في البيت الذي لم يكن بيتاً فعلاً .. في البيت الذي كان بيتاً مجازاً .. اصطلاحاً .. مكابرة .. بيت والسلام .. عرفت الحب لأول مرة ..
كانت ..
كانت ..
كانت تأخذني من يدي .. لنذهب إلى الحوش الذي لم يكن حوشاُ فعلاً .. لنعيش في ظلام لم يكن ظلاما فعلاً .. حباً ..
حباً لم يكن فعلاً ..
ولكنه كان حباً ..
بالنسبة لولد .. لم يكن ولداً فعلاً.
في يوم جمعة ..
نعم كان يوم جمعة ..
رأيت إحدى زوجات أبي ..
كان اسمها فاطمة ..
رأيتها في بيت أمي ..
كانت أمي تحاول أن تأخذ بخاطرها ..
تعزيها ..
ترفع من معنوياتها قليلاً
فقد طلقها أبي .. ليتزوج من امرأة أخرى.
لم تكن فاطمة امرأة فعلاً ..
كانت امرأة .. تجاوزاً
اصطلاحاً
مجازاً
ولكنها كانت على أية حال امرأة
كسيرة
كئيبة
في يوم جمعة كسيرة وكئيبة
وكل أيام الجمعة كسيرة وكئيبة
وفي يوم الجمعة .. وكان أبي قد ذهب ليحارب طواحين الهواء .. فأتوا واقتادوني أنا بملابس النوم .. حافياً .. إلى مكان ما ..
ضربوني .. ضربوني فعلاً .. لا مجازاً .. ولا تجاوزاً .. ولا اصطلاحاً
سهرة كاملة .. من الضرب
ثم رموني في نظارة فيها لصوص وقتلة ومنحرفون جنسياً
وفي الصباح قالوا لي : عد إلى بيتك
عدت حافياً .. وكانت قدماي من آثار الضرب تؤلماني
كانتا تؤلماني فعلاً ..
لا مجازاً .. ولا تجاوزاً ولا اصطلاحاً
وبعد أن وصلت البيت .. كان أحدهم واقفاً في انتظاري
وبعد أن تأكد من هويتي .. اقتادني مرة أخرى إلى نفس المكان
كانت تحبني فعلاً ..
لم تكن تحبني ..
بل كانت ..
بل لم تكن ..
أما أنا .. فكنت كالمسحور ..
أمشي وراءها .. بلا إرادة ..
كنت مسحوراً فعلاً ..
وكانت .. هي .. ساحرتي
في المنتصف .. في المنتصف تماماً .. في المنتصف دائماً .. في المنتصف أبداً .. في المنتـــ .....
أهذي؟
ربما .. وربما ..
ولكن منتصف ماذا؟
منتصف الحب
منتصف الحرب
منتصف الوشايات
منتصف القطيعة
منتصف الرايات الكاذبة
منتصف الهتافات والحناجر المدوية بالحرية
منتصف ذات الحناجر التي يقبع أصحابها في الأقبية
ذات الأقبية التي ناضلوا لهدمها .. او .. على الأقل .. لتحويلها إلى متاحف للعبرة والذكرى.
في المنتصف .. في المنتصف تماماً .. في المنتصف دائماً .. في المنتصف أبداً .. في المنتـــ .....
في المنتصف .. منتصف يوم الجمعة الكئيبة .. وكل الجمعات كئيبة .. قال لي، بعد أن وقعت على ورقة ما ..
تستطيع أن تذهب الآن. ولكن تذكر. نحن نستطيع أن نجدك دائماً ..
نستطيع أن نجدك
نحن كل شيء
وأنت لا شيء
نستطيع أن نجدك ولو كنت إبرة في كومة قش.
وامتلأتُ بي .. أقصد امتلأت بها .. بي .. بها .. هل ثمة فرق؟
ليس تماماً ..
فقد كان ثمة جزء مني ممتلئاً بأشياء أخرى
قلت لها: نتعارف؟
قالت: نتعارف.
عرضت عليها قصائدي .. فعرضت عليً قائمة بأملاك أبيها .. وقائمة أخرى بمناصب اقاربها وأملاكهم.
ولم نلتق بعد ذلك أبداً .. إلا كعابري سبيل!
أتى إلى عمّان مع والدته لانتظار الفيزا الى ماليزيا
قال لي بهمس: أريد مساعدتك؟
سألته: بم؟
قال: هذه القمصلة.
قلت: ما بها؟
قال: أريد بيعها، فقد أوشكت النقود التي ادخرناها في العراق على النفاد
أخرجت من جيبي كل النقود. وبدون أن أعدها أدخلتها في جيبه
قلت له: احتفظ بالقمصلة. لا تبعها . فالطقس بارد جداً في عمّان.
وإذاً .. فهذه الجمعة لا تختلف عن أي جمعة أخرى سوى في التراتب الزمني .. حيث تتغير الأرقام في الرزنامة كما تتغير الأرقام في عداد السيارة كلما تحركت العجلات .. حتى لو كانت حركتها في دائرة كما يفعل المراهقون من أبناء الذوات.
فأبناء الذوات .. الذين ولدوا فوجدوا (الدادا) تضع الطعام في أفواههم بملاعق من ذهب .. يحبون أن يذهبوا في تلك الجولات الاستعراضية للتشفيط والتخميس في الدواوير وأمام مدارس البنات.
لم أخبره طبعاً بشكوكي في أنه (هو) (صديقي الوحيد) (الذي تقاسمنا معاً كل شيء في اشتراكية سبقت عصرها ولن تتكرر) - .... أقول ، لم أخبره طبعاً بشكوكي في أنه هو من باعني ليؤمّن ربما ثمن ثلاث زجاجات من البيرة وبعض العرق. وأنه (هو) ربما .. من سلم حسن بوشاية مشابهة إلى حبل المشنقة.
ونقلت - هكذا وبكل بساطة - من جيبي الى جيبه .. كل ما احتوته من النقود.
قالت لي: احذر. فهم وحوش
اخذتني العزة بالإثم. أخذتني المكابرة. أخذني غرور الشباب. فنفثت في الهواء دخان سيجارتي. وقلت: لن يستطيعوا. هم جبناء جدا
قالت: لهذا السبب بالضبط عليك أن تحذرهم.
ضحكت بغباء.
فبكت.
مددت يدي لأمسح دموعها فانفجرت بي: متى ستنتبه أيها الغافل؟ متى ستصحو أيها السكران؟ متى ستدرك أيها المشغول بكل شيء إلا قلبي أنك لا تملك في الحياة كلها إلا ذلك القلب، وأنني إن فقدتك فقدته معك؟
وقالت لي: اقترب قليلاً!
فاقتربت قليلاً ..
اقترب أكثر!
فاقتربت أكثر ..
فصرخت: عليك اللعنة .. متى تفهم؟
في جزيرة وسطية على شكل سمكة مفلطحة مقعد خشبي طويل .. وكانت الجزيرة مسيجة بأشجار تخفي ما بداخلها ومن بداخلها ..
وكنت .. ألجأ إليها ليلاً .. فيحتضنني المقعد الخشبي الطويل حتى الصباح
كان ذلك بعد أن استفرغتني المدينة التي أعرفها وتعرفني إلى مدينة لا أعرفها ولا تعرفني
كان ذلك بعد أن أكل الوحش أباه وأمه ووحوشاً كثيرة أخرى فسجدت له كل حيوانات الغابة.
وزأر الوحش الغادر: لمن الملك اليوم؟
فطأطأ الجميع رؤوسهم صامتين ..
وتقافز بعض القردة مهللين بأسمائه التي يحبها
فضحك .. ضحك كثيراً .. ضحك كثيراً جداً ..
ورمى عليهم الكثير من الموز.
والتجأت أنا إلى الجزيرة الوسطية ليحتضنني المقعد الخشبي الطويل حتى الصباح.
ليست القرود وحدها من يحب الموز.
فأنا أحببت الموز أيضاً
ولكن في الوقت الذي كانت القردة تتقافز مهللة بأسماء الوحش التي يحبها .. كنت أنا أسعى كدودة .. أبحث عن أي عمل .. وكلما وجدته وضعت القرش فوق القرش .. لأشتري موزة أو اثنتين.
قال لي متفلسف من القردة: نحن بالنتيجة .. أقصد نحن وأنت .. نبحث عن الموز. فبماذا تختلف عنا؟
فأجبت: لا شيء . كل ما هنالك - ربما - أنني لا أحب التقافز وأعشق ديدانيتي التي تستحقرون.
كنت نائماً على المقعد الخشبي الطويل في الجزيرة الوسطية المفلطحة كسمكة عندما وقفت سيارة مسلحة على الرصيف القريب .. استيقظت على وكزة وصوت غليظ يصيح بي: من أنت وماذا تفعل هنا؟ أجبتهم على كل أسئلتهم .. وشيئاً فشيئاً لانت ملامحهم. ولكن الضابط قال لي: لا أريد أن أراك في هذا المكان مرة أخرى .. وذهب إلى السيارة. لحقه الشرطي بعد أن قال لي: لا عليك. سينساك بعد الكأس الثانية!
ويبدو أنه فعلاً نسيني بعد الكأس الثانية ..
كثيرون ينسون بعد الكأس الثانية .. وبعضهم ينسون بعد الكأس الأولى .. فيما ينسى البقية بعد عدد من الكؤوس.
أما أنا .. فأعتقد أنني أنسى .. وأفرح بذلك
ولكنني أفاجأ بما كنت قد ظننت أنه رسب إلى قاع الذاكرة وقد طفا فجأة على السطح
أمسكه بكلتا يدي .. أمسكه بيدي الإثنتين .. أمسكه من رأسه .. وأحاول أن أغط رأسه في الماء لأكتم أنفاسه ليموت مرة أخرى ويعود إلى قاع الذاكرة اللعينة .. وكل قيعان الذاكرة لعينة. وبعد أن أتأكد فعلاً أنه هناك .. أقصد في القاع اللعينة .. أفاجأ بغيره يطل مقهقهاً: ها ها ها ها ها .. لم أمت .. لم أمت .. ولن أموت .. أو ربما سأموت (إن كنت سأموت) بموتك أنت.