2010/01/25

هدى وهدى وتمام

كان اسم أمي هدى. واسم إحدى عماتي هدى. ولأسباب يعلمها الطرفان وينكرانها فقد تم تزويج هدى (أمي) لأبي بدلا لهدى (عمتي) التي تم تزويجها لخالي.

ولأن أخوالي يتامى فقد قصدوا أرض الله الواسعة ليسترزقوا. ولما كان خالي لا يستطيع البقاء في أرض الله بلا زوجة فقد طلب من عمتي أن تلحق به فأبت فهددها بالثانية فقلبت له شفتها وهزت رأسها استخفافا واستهزاءا. فما كان منه إلا أن نفذ تهديده فصار لها ضرة.

وكان ذلك سببا أكثر من كاف لكي تبتدئ مشاكل أمي. فعماتي انتصرن لهدى على هدى. وأقنعن جدي الذي لم يكن بحاجة لإقناع أبي بالزوجة الثانية. فأبي كان من أشد المؤمنين بكتاب الله .. وعلى الأخص قوله تعالى ”فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع“ وكان يقف عند ”رباع“ لا يتعداها إلى ما بعدها ..

وهكذا دخلت تمام بيتنا فقلبت حياتنا. ومن ضمن ما قلبته أن شجرة الرمان صار لها في بيتنا استخدامات أخرى.

2010/01/12

المتحول

لا يدري بالضبط ما الذي حصل له في تلك الليلة .. كل ما يذكره أنه كان حتى أمس طائر الحب الذي لم تنزل عينا رفيقته عنه لحظة واحدة منذ شهور طويلة ..

ولكنه في ذلك الصباح عندما استيقظ وقبل أن يفتح عينيه مد جناحه إلى حيث اعتادها أن تكون فلم يكن لها أثر. فتح عينيه على وسعهما. نظر يمينا ويسارا .. ليست موجودة. ظل في مكانه ينتظر ويترقب عودتها ولكن انتظاره امتد لآلاف من نبضات القلب وآلاف الزفرات ..

وأخيرا ظهرت .. ظنها قادمة نحوه فتقافز وهو يزقزق فرحا .. ولكنها تجاوزته متجنبة النظر في اتجاهه ..

ناداها فتجاهلت نداءه. لام نفسه إذ ربما كان صوته خافتا فلم تسمعه. نادى بصوت أعلى فالتفتت إليه ..

- ماذا تريد؟

- انتظرتك طويلا

- أنا لا أعرفك

- أرجوك .. ماذا تقولين؟

- أنت غراب. وأنا لم أعرف غربانا قط

- لست غرابا .. أنا طائر الحب الذي طالما تعلقت عيناك بعينيه وشفتيه

- لا أعرفك وكفى

نظر حوله فرأى بركة ماء .. طار إليها ووقف على حافة الماء ينظر إلى صورته باحثا عن ملامح غراب.

2010/01/09

السلفانا ومطرق الرمان

أما السلفانا فهي نوع من الشوكولاتة تعبأ في باكيتات واحدها يسمى ”سفط“. والسلفانا حلوى لذيذة للضيافة تقدمها ربة البيت لضيوفها مع فنجان القهوة لتكرمهم.

أما ربة البيت فكانت زوجة أبي الثانية. ضرة أمي الأولى. وكان اسمها تمام. وأما الضيوف فكانوا أهلها. وأما المناسبة فأظنها كانت ليلة العيد الكبير. ضيفت تمام أهلها ودحشت سفط السلفانا تحت السرير. وكان قريبا من يدي.

ولأنني أحب الشوكولاتة فقد طابت لي جيرة سفط السلفانا. ولم تفد معي جحرات تمام النارية. ولما كان النقاش ساخنا بين أبي وأنسبائه فقد كان جاهزا ليفش غله في. وفعلا، ما أن غادر ضيوفه البيت حتى شكتني تمام لأبي وأرته ما كان سفط سلفانا. وما أن سمع طرف الحكاية حتى أرعد وأزبد. وكانت شجرة الرمان على بعد فحجتين من باب البيت فلم تأخذ عملية قطع مطرق الرمان وتجهيزه الكثير من الوقت.

صددت المطرق الأول بيدي. وبينما أنا مشغول بالولولة من وجع الضربة الأولى جاءتني الضربة الثانية على مؤخرتي مشفوعة بشتائم أسمعها من أبي للمرة الأولى في حياتي. وقبل أن تصلني الضربة الثالثة كنت أعدو بسرعة لم أعهدها في نفسي من قبل.

ولم يكن تدبير مكان أختبئ فيه من والدي بالمسألة الصعبة. فقد كانت ليلة عيد. وكان السوق عامرا. فجلست في محل أحد الحلاقين أنتظر دوري للحلاقة. فغدا هو أول أيام العيد السعيد.

وكم كنت مؤدبا ومئثارا. فقد سمحت للكثيرين أن يأخذوا دوري.

وكانت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل عندما دخل والدي محل الحلاقة. ويبدو أنه بحث طويلا عني. وظل طوال الطريق إلى البيت وهو يحاول طمأنتي إلى أنني لن أنال نصيبا آخر من ضربات مطرق الرمان

بووووظة بوظاااااة

كم كان صندوق البوظة ثقيلا علي!

ولذلك فقد كنت أكثر من استراحاتي كلما صادفت ظل حائط يقيني لهيب شمس الصيف. وكنت بين الفينة والفينة أعد ما تجمع في جيبي من نقود ثمن البوظة التي أبيعها فتؤلمني ضآلته فأشد قامتي. وكنت إذا ما عضني الجوع بأنيابه أعود إلى أمي ..

”بقديش بعت يما؟“

أمد لها يدي بما كسبت فتلقي عليها نظرة خاطفة ولا تقول شيئا. ولكنها كانت في مثل تلك الأحوال ”تشتري“ لإخوتي مني. وعندما كانت تراني أسترق لهم نظرات الغيرة كانت ”تشتري“ لي مني. فيأكلون وآكل. ثم أنطلق في رحلات تكسبي من جديد.

2010/01/07

المريلة

”يللا إصحى يما .. الساعة صارت ستة. بدنا نلحق نروح عالوزارة. المفروض قبل الساعة ثمنية نكون هناك“.

فتحت عيني. تقلبت في فراشي. فركت عيني، فأحسست بالنعاس كالرمل الخشن تحت جفني. منذ مدة لم أشبع من النوم. فقد كان عملي في النهار كبائع متجول يسلمني مهدودا كل مساء لسهرة حل الواجبات وتحضير دروس الغد. ومنذ أن تقلص البيت بعد أن أخلت الأسرة نصفه للموظف الجديد الذي حل محل أبي وأنا مضطر للدراسة في غرفة صغيرة هي بمثابة مدخل البيت. وقد بدأ الموظف الجديد مضايقاته لنا ليجبرنا على إخلاء البيت، فقام بقطع الكهرباء. ومنذ ذلك الوقت وأنا أدرس على ضوء بريموس (بابور) الكاز.

ومع ذلك كان يجب أن أنهض. ففي الليلة الفائتة وقف المختار على باب الحوش الخارجي وأخذ يطرق الباب طرقا مدويا .. وخرجت أمي للتحدث إليه.

”يا أم محمد. أبو محمد ما عاد موظف هون. والزلمة الجديد بدو البيت كله. الغرفة اللي فضيتولوا اياها ما بتكفيه. رجاءا بدي اياكم تدبروا حالكم من هون لآخر الشهر وتفضوله البيت“.

”بس أبو محمد ألله يفرجها عليه يا أبو إبراهيم. وأنا مره وحدانية هون ومقطوعة من شجرة. أهلي بالضفة وما فيه حدا أروحله أنا وولادي“.

”إسمعي أم محمد. الله يرضى عليكي لا تكثري حكي. ما حدا قال لأبو محمد يعمل اللي عمله تا يخسر وظيفته. ومش مشكلتنا وين تروحي انتي وولادك. إلكو ألله بس إحنا بدنا البيت“.

قمت من فراشي. لبست ما كان يسمى حذاءا. وخرجت مع أمي لنكون في تمام الساعة الثامنة أمام باب الوزارة.

”أنا أم محمد. مرت فلان الفلاني“.

”أهلا وسهلا“. قال الرجل الوسيم الجالس وراء مكتبه الفخم. نظر إلى أمي نظرة سريعة ثم نظر إلي بحنان.

”إنت محمد؟“. سألني.

”آه. أنا محمد“.

”شوفي يا أم محمد. أنا راح أحاول كل جهدي أساعدكم. راح أحاول أمطمط الشغلة أطول مدة ممكنة. وبلكي ربنا فرجها قبل ما يقدر الزلمة يوصل الشغلة للمسؤولين اللي أكبر مني“.

”الله يخليك يا سيدي. الله يخليلك أولادك. أنا مره وحدانية ومقطوعة وما إلي غير ألله وغيرك. أبو محمد كان يذكرك كثير بالخير. وعشان هيك أنا قصدتك أنت بالذات“.

”ألله يجيب اللي فيه الخير ويقدرني أساعدكم.“ أجابها.

”تعال يا محمد. خذ هاد الكرت وبتروح على مطعم المدينة المنورة. هاي كتبتلك العنوان وإسم صاحب المطعم هون. بتقوله بيسلم عليك أبو صهيب. وبقولك شغلني عندك. وبتشتغل عنده عبين ما ألله يفرجها معكم. فاهم شو حكيتلك ولا أعيد؟“.

”فاهم يا سيدي“.

أخذت منه الكارت. شكرته أمي وخرجنا.

عندما وصلنا إلى المطعم كان أبو صهيب قد كلم صاحب المطعم تلفونيا.

”أنت محمد“ سألني وهو يتفحصني.

هززت رأسي بنعم.

”ولكنك صغير يا محمد. إنت مش بتروح عالمدرسة؟“

”بروح. لكن هسه عطلة آخر السنة“

”طيب يا محمد. من هلأ بتقدر تداوم. الدوام هون من السبعة للسبعة.وراح أعطيك خمسطاشر ليرة بالشهر لأنك جاي من طرف أبو صهيب بس. وإلك وجبة غدا كل يوم ع حساب المحل“

ونادى بأعلى صوته ”يا شحادة“. فحضر رجل أربعيني.

”نعم سيدي“.

”خذ محمد معك ع المطبخ. راح يشتغل معكم ع الجلي“.

أخذني شحادة إلى مكان طويل وضيق. تضيؤه لمبات إنارة ضعيفة جدا. أعطاني مريلة وصلت إلى ما تحت منتصف ساقي. وبدأت العمل.