كلنا دون استثناء ندين بالفضل ل ”أبو مراد“ ..
وأبو مراد هو سائق الباص الذي ينقلنا كل يوم من قريتنا إلى المدينة المجاورة ..
وأبو مراد يحفظ وجوهنا جميعا .. ويحفظ ليس فقط أسماءنا .. بل كل قصصنا التي نجود بها على بعضنا لنكسر ملل الطريق .. وبحفظ بعض أسرارنا التي يأتمنه كل منا عليها فيحفظها ويحافظ عليها في قرار صدره المكين ..
أبو مراد يعرف مثلا متى تكون ”سحر“ (مبسوطة) من ”ماجد“ زميلها في العمل .. فيفتح لها – بدون أن تطلب منه – الراديو على فيروز .. ومتى تكون سحر (شايفة الديك أرنب) فيرمقها بنظرة تفهم وتفاهم تعيد لها بعض ابتسامة ..
وأبو مراد يعرف مثلا أن ”الشيخ إحمد الحامد“ لا يفوت فرصة لتحويل أي حديث – بعد نشرة الأخبار التي يصر على أن نسمعها بمعيته من راديو البي بي سي – إلى خطبة دينية يسقعنا ويرقعنا فيها بالويل والثبور وعظائم الأمور إن لم نعمل جميعنا لإعادة دولة الخلافة التي أسقطها ”الإنكليز واليهود“ ..
أبو مراد سياسي ناجح .. يعرف كيف يسوسنا ويسايسنا ويستوعب جميع تناقضاتنا واختلافاتنا بنكتة من نكاته التي تجعل أغلبنا يقهقه وتجعل حتى الشيخ إحمد الحامد يبتسم ..
وذات يوم لم يأت أبو مراد لينقلنا كعادته إلى المدينة ..وقد جاء بدلا منه مراد ..
”الوالد تعبان شوية يا جماعة .. وإلى أن يقوم بالسلامة سأحل أنا محله ..و ..و ..و ..“
لم نستمع لكل ما قاله بعد ذلك ..
وفي مساء ذلك اليوم كنا جميعا في بيت ”أبو مراد“ لنطمئن عليه ..
حتى سحر كلفتني أن أنقل له سلامها وأطمئنها عليه في اليوم التالي ..
لم يستطع أبو مراد أن يرد على أسئلتنا لفرط تأثره .. لقد اكتفى بمحاولة الشد على أيدينا ونحن نسلم عليه وعيناه مغرورقتان بالدموع ..
ولأول مرة نرى الشيخ إحمد الحامد يفوت جلسة بلا كلام عن الخلافة الغائبة ..