لا أحب التخطيط للرحلات .. وأحياناً أخرج من البيت برفقة زوجتي وابنتي بِنِيَّة (تغيير الجو شوية) وعمل جولة قصيرة لمدة (ساعة زمان) في شوارع أبو نصير وشفا بدران وما حولهما مع التأكيد على أن لا تزيد جولتنا عن (ساعة مش أكثر عشان البنت ترجع تدرس) .. وفي لحظة ما .. تلتمع في رأسي فكرة: دنننننننج .. ألتفت إلى زوجتي وابنتي وأسألهما:
- ”شو رايكم نروح شارع المطار؟“
تهلل ابنتي الجالسة في المقعد الخلفي:
- ”ياااااااااااي .. آه بدّي بدّي بدّي“
تردّ زوجتي:
- ”شارع المطار؟ مش بعيد شويّ؟“
أطمئنها بأنّنا لن نتأخر ..
- ”ويا ستّي البنت حابّة تروح .. ساعتين بسّ مش أكثر .. بنقيس الطريق وبنرجع .. ماشي؟“
يأتي صوت ديانا من المقعد الخلفي:
- ”يا ماما يا ماما ساعتين زمان بس ..“
فتقول زوجتي:
- ”طيب .. بس ساعتين وبترجعي تدرسي (لإنو أولاد الجيران أكلوا الكتب أكل)“
ونتجه إلى صويلح فطريق المدينة الطبية فالدوار السابع فطريق المطار .. تلتمع في رأسي فكرة: دنننننننج .. ألتفت إليهما:
- ”شو رايكم نفطر في استراحة القطرانة؟“
تهلل ديانا من الكرسي الخلفي:
- ”ياااااااااي“
تقول زوجتي:
- ”بس يا محمد البنت .. والدراسة“
فأرد:
- ”يا ستّي .. بنفطر وبنرجع .. بعدين القطرانة مش بعيدة .. بزيادة نص ساعة زمان .. ها؟ شو قلتوا؟“ ..
نصل إلى القطرانة .. أنظر إلى عداد البنزين ..
- ”إسبقوني جوه ع الاستراحة .. بعبي بنزين وبلحقكم“
ترد زوجتي:
- ”شو نطلب؟“ ..
أنظر إلى ساعة السيارة .. فأنا لا أحمل ساعة يد .. لا أحب ساعات اليد .. وفي الحقيقة لا أحب الساعات كلها ..
- ”الساعة هسه صارت 11 ونص تقريبا .. إذا بلشوا يقدموا مشاوي اطلبي مشاوي .. زماااااان ما أكلنا مشاوي“ ..
تدخل زوجتي وديانا إلى الاستراحة .. (أفلل) بنزين .. وألحق بهما إلى داخل الاستراحة ..
بعد هذا الإفطار المتأخر نخرج من الاستراحة .. نتجه جنوباً لكي ننعطف عند أول (يو تيرن) عائدين إلى عمّان .. وقبل أن نصل الـ (يو تيرن) بقليل تلتمع في رأسي مرة أخرى فكرة: دنننننننج .. أطنش ال(يو تيرن) وأتجاوزه .. تصيح زوجتي:
- ”ليش ما لفيت ع الـ (يو تيرن)“ ..
- ”ييييييييييييي .. نسيت .. يللا بسيطة .. بنلف ع اليو تيرن الثاني ..“
ولكنني لا ألف على اليو تيرن الثاني .. ولا الثالث .. ولا الرابع ..
وفي كل مرة يرتفع احتجاج زوجتي:
- ”محممممممممممممممااااااااد!“
فيرتفع صوت ديانا بالتهليل:
- ”يااااااااااااااي .. ع العقبة؟ ياااااااااااي“
أطمئن زوجتي:
- ”اسمعي .. زمان ما أكلتي سمك طازة .. صح؟“
فترد زوجتي:
- ”مممممممم سمك؟ آه والله .. بس اسمع .. بنطلب سمك الفارس .. كثير طيب .. بس بنتغدى وما نتأخر. ماشي؟“
- ”ماشي“ ..
وأبتسم ..
طريق العقبة واسع .. وطويل .. تقول زوجتي:
- ”تعبت؟ اذا تعبت بريحك بالسواقة“
أرد عليها:
- ”لما أتعب بحكيلك“
بعد عشر قائق .. تعيد زوجتي السؤال:
- ”ما تعبت؟“
كررت السؤال أكثر من مرة .. فكان لا بد أن .. أفهم ..
صفيت السيارة على يمين الطريق .. واتجهت مشياً على رمال الصحراء، مبتعدا عن السيارة بما يكفي .. فقد أحسست بحاجة إلى أن أعمل (زي الناس) ..
عندما عدت إلى السيارة كررت زوجتي السؤال نفسه:
- ”بتحب أسوق عنك؟“
- ”ماشي يا عسل“
جلست زوجتي في مقعد القيادة .. وواصلنا المسير باتجاه العقبة .. قبل وصولنا إلى العقبة بقليل تنحّت زوجتي لي عن مقعد القيادة .. بدت لنا مياه الخليج من بعيد، زرقاء تتلألأ تحت أشعة الشمس .. دخلنا العقبة .. وصففت السيارة على الشارع الممتد بموازاة الشاطئ ..
كانت الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر .. وكانت أشعة الشمس حارقة .. وكانت الرطوبة في الجو عالية .. جلسنا نستريح من تعب السفر، على حافة سور منخفض قريب من المياه .. ذهبت زوجتي وديانا إلى أقرب حمامات عمومية .. وفجأة رن هاتفي .. كان رقم هاتف زوجتي .. ولكن بدلا من أن أسمع صوتها كان على الطرف الآخر صوت رجل غريب:
- ”المدام هون .. هيها بدها تحكي معك“
- ”خلص .. مش قادرة .. هسه بدنا نروح ع عمان“
- ”ليش؟ مالك؟ شو في“
- ”جيب السيارة هسه هسه“
- ”طب انتو وين؟“
أعطت زوجتي الهاتف للرجل ليصف لي المكان .. كان المكان لا يبعد عن مكان وقوف السيارة أكثر من مائة متر .. وكان عليّ أن أدخل عكس السير لأصل إليها .. أوقفني الشرطي الجالس في كشك الشرطة على رأس تلك الدخلة ..
- ”ممنوع“
شرحت له الموقف باختصار .. فسمح لي بالدخول .. كان وجه زوجتي كبرتقالة ناضجة وكان العرق يتصبب منها .. ركبت زوجتي وديانا السيارة .. خلعت منديلها، وشغلت التكييف بعصبية ..
ومن أقرب يو تيرن انعطفت إلى بداية طريق العودة إلى عمان .. عندما .. التمتعت في رأسي فكرة: دنننننننج ..
توقفت بقرب أول فندق ألمحه .. دخلت .. سألت الشاب المصري الذي يجلس في الاستقبال ..
- ”عندك غرفة فاضية؟“
- ”كام شخص“
- ”ثلاثة“
-تفقد الشاب لوحة المفاتيح .. ثم نادى على زميله ..
- ”يا محمد .. خود الأستاذ خليه يشوف غرفة 205“
- ”طيب خليني أجيب الجماعة وبعدين بنشوفها“
عدت إلى السيارة ..
- ”يللا انزلوا .. هي ربنا سهلها .. في غرفة فاضية“
انبسطت زوجتي .. صعدنا إلى الغرفة .. شغل الشاب الذي أوصلنا إلى غرفتنا التكييف .. والتلفزيون .. وأنزل الستائر .. بعد أن استرحنا قليلا نزلت أنا وديانا إلى أقرب محل لبيع المناشف والبشاكير وما شابهها من احتياجات زائر مفاجئ لم يحسب حساب رحلة مماثلة .. وبعد غروب الشمس نزلنا إلى المطعم المقابل للفندق .. طلبنا سمكة طازجة من سمك الفارس .. ثم جلسنا على شاطئ الخليج في الهواء العليل .. وكانت مياه الخليج ترتفع قليلاً قليلاً مستجيبة لجاذبية القمر ..
في صباح اليوم التالي .. خرجنا من الفندق .. تناولنا فطورنا في مطعم قريب .. جلسنا قليلا على شاطئ البحر ..
لم أستطع مقاومة إغراء المياه فنزلت .. كانت المياه باردة .. ولكن أرغمت جسدي الذي تفاجأ ببرودتها على الانسجام السريع بأن غمرته سريعا بالمياه .. لم يستغرق الأمر طويلا عندما ذهب الإحساس ببرودة المياه ليحل محله شعور لذيذ .. ناديت على زوجتي وابنتي لينزلوا إلى المياه .. رفضت زوجتي .. أما ديانا فمانعت قليلا .. ولكنها أخيرا اقتربت من المياه خائفة متوجسة .. اقتربت منها .. أمسكت يدها .. ظلت واقفة على مقربة من الشاطئ .. كانت المياه قد وصلت إلى ما دون ركبتيها بقليل ..
- ”خلص .. لهون وبس .. خلينا هون“
- ”لا تخافي .. خلينا نفوت كمان شوي ..“
- ”ولا سانتي“
حاولت أن أشدها باتجاه المياه الى المنطقة التي يمكن على الأقل أن نطفو فيها .. أو أن نجلس في مياهها بحيث تغمرنا المياه حتى أكتافنا ولكنها تشبثت بي وكانت تشد يدي إلى الوراء باتجاه الشاطئ ..
- ”خايفة يا بابا!“
- ”هيني ماسكك .. لا تخافي ..“
- ”ما بدي ..“
يئست من المحاولة .. ملأت كفي بالمياه ورشقتها عدة مرات سريعة متلاحقة ..
صرخت ديانا:
- ”آي هيت يو!“
أجلستها على صخرة كانت وسط المياه قريبة من الشاطئ .. وغمرت نفسي بالمياه ..
* * * * * * *
وأخيراً .. كان لا بد أن نعود إلى عمان .. فــــ .. أولاد الجيران .. أكيد .. (أكلوا الكتب أكل) ..