2014/05/30

قمرْ .. قمرْ

(مهداة إلى روح بدر شاكر السياب)

قمرْ .. قمرْ ..

قمرْ .. قمرْ ..

لا بدّ أنْ ينزاحَ هذا الغيمُ يا صغيرتي ..

ويطلعَ القمرْ

وكلُّ هذا الحزنُ يا عزيزتي سينقضي ..

وبسمةٌ صافيةٌ تزيَنُ الوجوهَ والأحجارَ والشّجرْ

ستفرحينَ .. ترقصينَ .. تقفزينَ في بهائِكِ (الّذي ادْلهمَّ ساعتينِ ربّما بطعنةٍ مِنَ القدرْ) ..

ستنتشينَ .. ننتشي معاً .. وتشرقُ الصّورْ

فابتسمي .. حبيبتي ..

فكلُّ ما في الكونِ (مهما كانَ سيِّئاً) .. سيستجيبُ صاغراً لكلْمةٍ صغيرةٍ يقولُها الإلهْ:

تأدّبوا يا أيّها البشرْ ..

أنا الّذي وضعْتُ في صدورِكمْ قلوبَكمْ ..

جعلتُها نابضةً مُحِبّةً

وما خلقْتُها أنا لكي تكون مِنْ حجرْ

قمرْ .. قمرْ ..

قمرْ .. قمرْ ..

لا بدّ أنْ ينزاحَ هذا الغيمُ يا صغيرتي ..

ويطلعَ القمرْ

ربع ساعة

استيقظت في الخامسة صباحاً .. نظرت إلى طفلي عمر، النائم بجانبي .. كانت قدماه على مخدته الصغيرة ورأسه في مكان ما، تحت اللحاف .. اللحاف الوحيد الذي نمتلكه، صححت نومته وغطيته .. سأوقظه في السادسة ليكون جاهزاً عندما يأتي باص الروضة في السادسة والنصف ..

ذهبت إلى الحمام .. ثم إلى المطبخ .. أعددت مطارة عمر وسندويشة وضعتها في كيس النايلون ليأخذها معه إلى الروضة .. أعددت لنفسي فنجاناً من القهوة وجلست أحتسيه وأدخن ..

* * * * * * *

بعد طلاقي من ماجد اضطررت لبيع الكثير من أثاث البيت .. بعته قطعة بعد قطعة .. قطعة لدفع أجرة البيت .. وقطعة لتسديد فاتورة كهرباء .. وأخرى لتسديد فواتير مياه متراكمة .. لم يكن المبلغ الذي حكمت به المحكمة كنفقة لي ولطفلي كافياً إلا لبعض الأساسيات فكان لا بد أن أبحث عن أي عمل لأعيش .. وجدت عملاً في عيادة طبيب .. أكون في العيادة في الثامنة .. أنظفها .. أرتب المكان ليصبح جاهزاً لاستقبال المرضى .. أنظم مواعيدهم .. أرد على المكالمات .. أحضر طلبات الدكتور من الشاي والقهوة .. و .. أتكتم على ما يجري وراء الباب الذي كان يغلقه من الداخل عندما كانت تأتي - من وقت لآخر - (مريضة حالتها صعبة شوي) بعد أن يطلب مني أن (أتصرف مع أي حدا بيجي أو بيسأل عني ع التلفون) ..

- فهمتي يا حجة؟

كان يقول لي ذلك وهو يبتسم ابتسامة ذات مغزى

طبعاً فهمت .. وكان يعلم أنني فهمت .. فيغمزني بعينه ويبتسم ويختفي مع (مريضته) وراء الباب المغلق.

في البداية (حاول) معي .. وعندما رفضت بأدب .. لم يطردني .. لم يغضب .. قال بهدوء: ”أوكي .. آز يو لايك .. جست فورغت ات .. أوكي“

لم يكن الدكتور سيئاً .. وعلى العكس فقد كان كريماً معي في مواقف كثيرة .. وبمرور الأيام بدأت أعتبر تصرفاته طبيعية .. فهو شاب .. ووسيم .. وأعزب .. ومن حقه أن ..

ولكنني شيئاً فشيئاً .. بدأت ألاحظ أنه أصبح يسألني أسئلة كثيرة .. عن نفسي .. عن عمر .. عن ماجد وسبب طلاقي منه .. في البداية كنت متحفظة في أجوبتي .. ولكن عفويته في طرح الأسئلة واهتمامه بمعرفة كل التفاصيل الصغيرة جعلاني أشعر باطمئنان كبير فأفتح قلبي له وأستفيض في الإجابة ..

- انتي اصدق وأرق مخلوقة عرفتها في حياتي .. وعشان هيك بدي أنا كمان أصارحك بشغلة .. أنا لسه ما تجوزت لسببين ..

- شو همي؟

- أول سبب .. إني ما لقيت وحدة زيك

اغرورقت عيناي بالدموع ..

- والسبب الثاني؟

صمت قليلاً .. ثم قال:

- السبب الثاني .. إني .. ع الأغلب ما راح أقدر أخلّف

بكيت .. تردد قليلاً .. ثم أخرج من باكيت الفاين عدة مناديل ورقية .. اقترب مني .. ومسح دموعي ..

- أنا آسف يا حجة .. آسف إني بكّيتك .. فرجيني ابتسامتك الحلوة أشوف؟

* * * * * * *

بعدها .. خفت زيارات (المريضات اللي حالتهن صعبة شوي) .. ثم توقفت .. كنت سعيدة بذلك .. ولا بد أنه لاحظ ذلك .. لأنه قال لي:

- أحلى إشي فيكي إنك ما بتقدري تخبي اللي جواكي .. انتي زيي يا حجة .. كتاب مفتوح

- شو قصدك دكتور؟

لم يجب .. ولكنه ضحك ..

* * * * * * *

وصلت الى العيادة في الثامنة .. فوجئت به واقفاً وراء البوتوغاز يعد بنفسه القهوة

- غريبة دكتور .. ما إلك بالعادة تيجي هيك بكّير ..

- حبيت أحضرلك اليوم القهوة بنفسي

- إنت تحضرلي القهوة دكتور؟ إلي أنا؟

ابتسم ..

- حجة .. بالمشرمحي: تتجوزيني؟

- والمريضات اللي حالتهن صعبة شوي؟

ضحك طويلاً:

- خلص .. طابن

- بتحكي جد؟

- في بيناتنا مزح يا حجة؟

- وعمر؟

- عمر مثل إبني .. شو قلتي؟ إيمتى أجيب الجاهة؟

كنت سعيدة .. سعيدة إلى الحد الذي كاد يجعلني أهم بالقفز من مكاني إلى حضنه وتقبيله .. ولكنني بدلاً من ذلك .. ابتسمت وقلت بدلال:

- دكتور .. عنجد انت فاجأتني .. اعطيني مهلة أفكر

- أوكي حجة .. فكري على مهلك .. معاكي ربع ساعة .. منيح؟

لم أكن بحاجة للتفكير .. وكان يعلم ذلك .. ولكنني قلت:

- لأ قليل ربع ساعة .. إعزمني ع الغدا .. وبعد الغدا .. بيصير خير ..

2014/05/25

داليا

ولنا في أم قيس قصص كثيرة .. ذكرتني زوجتي بإحداها بعد أن قرأت لها القصة التي كتبتها اليوم بعنوان ”أم قيس“ ..

قالت لي: ”ليش ما تكتب قصة داليا؟“

سألتها:

- ”مين داليا؟“

- ”صاحبة ديانا .. البنت اللي راحت معانا العام على أم قيس .. شو؟ لحقت تنسى؟“

زوجتي معها حق في سؤالها الاستنكاري .. فذاكرتي أصبحت أضعف من ذاكرة ذبابة، تهشها فتنسى أنك قد هششتها بعد نصف ثانية فتعود إلى ما كنت قد هششتها عنه ..

ولكنني تذكرت قصة داليا .. فذلك اليوم من الصعب أن ينساه حتى شخص ضعيف الذاكرة مثلي ..

في ذلك اليوم نزلنا إلى السيارة فوجدت صبية بعمر ابنتي .. علمت أن اسمها داليا .. وأنها بنت بعض جيراننا في الحي .. وأنها زميلتها في الصف .. وأنهما قد اتفقتا على أن تذهب داليا مع ديانا وأم ديانا وأبي ديانا في تلك الرحلة ..

- ”أهلك بيعرفوا يا بنتي؟“

- ”آه بيعرفوا عمو“

- ”طيب .. على بركة الله“

ولأن الحكي بيجر الحكي .. علمت من داليا أن أهلها لا يأخذونها معهم في مشاويرهم .. لأنه .. ”بيقولوا عني منحوسة .. وبيقولوا (قال) أنو أي مكان بروح عليه لازم لازم تصير مصيبة“

ضحكت .. فأنا لا أؤمن بالنحس والمناحيس ..

- ”ما ترديش ع هالحكي يا بنتي .. هاظ حكي فاظي“

وضحكت مرة أخرى ..

وصلنا أم قيس .. جلسنا .. تغدينا .. تحدثنا .. تجولنا بين آثارها .. ووقفنا على تلك الربوة .. الربوة التي تستطيع منها أن ترى بحيرة طبريا .. وتتحسّر .. وبعد أن تحسرنا بما فيه الكفاية، عدنا أدراجنا إلى المكان الذي كنا جالسين فيه .. رأيت شجرة (صبر) .. ولأن (الصبر) يرتبط لدي بذكريات عابقة من الطفولة، عندما كنا نزور (دار سيدي) في الضفة الغربية، فقد وقفت أمام شجرة الصبر في أم قيس .. وقلت لديانا: ”صوريني“. صورتني ديانا بموبايلها الذي أسميه مازحاً مضيق برمودا (لأن كل الصور التي تصورنا به تختفي في ظروف غامضة .. تماماً كما تختفي السفن والطائرات التي تمر من ذلك المضيق أو تقترب منه) .. المهم .. ما علينا .. بعد أن صورتني ديانا ببرمودها أحببت أن أمازحها .. حملتها بين ذراعي .. وتصنعت أنني أهم بإلقائها على شجرة الصبر .. انزلقت ديانا من بين ذراعي مرعوبة .. ولعلها ظنت لوهلة بأنني جاد فعلا في نية إلقائها هناك .. لم أدر ما حصل بعدها .. ولكن ساقي ارتطمت بعمود حجري دائري يرتفع قرابة الستين أو السبعين سنتيمترا عن الأرض .. أحسست لحظتها بأن ساقي قد كسرت .. أو أن شيئا كالجمر قد لسعني هناك .. في منتصف الساق .. ولكنني تحاملت على نفسي وأكملت المسير إلى المكان الذي كنا نجلس فيه .. ثم خف الألم ونسيت ما حصل ..

عند الغروب ركبنا السيارة عائدين إلى عمان .. وكان يجب أن نمر بإربد .. ولكننا بدلاً من أن نسلك طريقاً (برّانيّاً) وجدنا أنفسنا في وسط شارع ضيق لا يتسع إلا لسيارة واحدة .. كان صف السيارات أمامنا وخلفنا يمتد إلى ما لا نهاية .. وكانت السيارات تمشي نصف دقيقة لتعود فتقف بعدها عشر دقائق ..

المهم .. خرجنا (بعد عمر طويل) من ذلك الشارع .. بعدها سلكت أمورنا نوعاً ما .. وها نحن أخيراً على الطريق الرئيسي المتجه جنوباً صوب عمّان ..

بعد تجاوزنا مثلث (النعيمة) بدقائق، وقريباً من تقاطع بليلا، كان هناك توقف جديد .. ولكن هذه المرة كان توقفاً من نوع مختلف .. فعلى هذا الطريق الخارجي من النادر أن تتوقف حركة السيارات بهذا الشكل .. كان الشارع مظلما (فعبد الله النسور كان قد فرض التعتيم الكلي على الطرق الخارجية) وكان هنالك عدد كبير ممن نزلوا من سياراتهم يستطلعون سبب التوقف .. وفجأة رأيناهم عائدين مهرولين إلى سياراتهم .. ثم رأينا رجال الدرك يأمروننا بالالتفاف والعودة من حيث أتينا ..

- ”يا إخوان الطريق مسكرة .. إرجعوا من مطرح ما جيتوا“

- ”شو في؟“

- ”في ناس من سكان المنطقة قاطعين الطريق .. وبيراجدوا حجار على أي سيارة بتحاول تمر من المنطقة“

وفجأة أحسسنا جميعا بالاختناق .. فقد استعمل الدرك القنابل المسيلة للدموع لتفريقهم ..

تراجعت السيارات في الطريق المعتم بعشوائية .. وأخذت تصطدم ببعضها البعض .. ضرب أحدهم سيارتنا وهو يرجع (ريفيرس) .. حاولت تنبيهه بزامور سيارتنا ولكنه لم يتوقف إلا بعد أن سمع صوت زجاج أضواء سيارته الخلفية يتكسر عند اصطدامه بباب سيارتنا الأمامي الأيمن .. الباب القريب من المقعد الذي كانت زوجتي تجلس عليه ..

ولكن الله ستر .. فقد توقفت السيارة المتراجعة بعد تحطيم باب السيارة .. وتراجعنا جميعاً عائدين باتجاه إربد ..

بعد أن ابتعدنا عن المكان قليلاً أخذنا نتبادل التهاني بالسلامة .. واستذكرنا محفوظاتنا من الأمثال التي يقولها الناس في مثل هذه الظروف .. من نوع ”بالمال ولا بالعيال“ و ”الحمدلله إنها وقفت على هيك“ إلخ إلخ إلخ ..

توقفت بالقرب من سيارة دورية شرطة متوقفة على يمين الشارع .. وسألته:

- ”كيف بدنا نروح على عمان؟“

- ”ما في قدامك غير تروح عن طريق الزرقا“

كنا قد تجاوزنا مثلث النعيمة .. ونصحنا رجال الدورية بعدم العودة إلى هناك .. فلعشيرة المرشح الذي خسر الانتخابات والتي خرجت لتقطع الشارع الرئيسي امتدادات في تلك المناطق .. لم يكن أمامنا إلا الاستمرار في طريقنا .. وصلنا جسر مستشفى الملك عبد الله هناك طريق يتجه يميناً إلى الزرقاء .. دخلنا فيه .. كان الشارع أمام المبنى الحكومي هناك مضاءً بأنوار الكشافات الساطعة .. أما ما بعد ذلك فكان ظلاماً دامساً .. قررت المغامرة وانعطفت يميناً .. ولكن قطيعاً من الكلاب المتوحشة هاجمنا فاستدرت هارباً منها متجها إلى الرمثا ..

قبل وصولنا الرمثا كان هناك تقاطع آخر وسهم إلى اليمين باتجاه المفرق .. فانعطفت إلى اليمين ..

وصلت المفرق .. وتابعت طريقي إلى الجنوب .. وبعد أن سارت السيارة مسافة أحسستها مئات الكيلومترات وصلت تقاطعاً آخر .. وسهم إلى اليمين باتجاه الزرقاء .. انعطفت إلى اليمين مع السهم .. ظلام دامس .. لم يكن هناك غيري في ذلك الإتجاه فاعتقدت أنني قد أضعت الطريق ..

توقفت إلى أن مرت سيارة .. أوقفتها وتأكدت من سائقها أن هذا الطريق يوصلني فعلاً إلى الزرقاء إن تابعت السير فيه ..

تابعنا سيرنا .. دخلنا الزرقاء .. وأصبح كل همي أن أخرج من الزرقاء ودهاليزها .. وأخيراً بعد أن تهت عدة مرات وسألت عدة مرات .. ها أنا ذا على بداية طريق ياجوز باتجاه عمان .. وتشاركت حفر الشارع ومطباته مع الظلام في جعل مسيرنا (مريحاً للغاية) ..

عندما اقتربنا من بدايات عمان تنفست الصعداء .. حانت مني التفاتة - عبر المرآة - إلى المقعد الخلفي للسيارة .. تنبهت إلى داليا، صديقة ابنتي .. وتذكرت قولها في ظهيرة ذلك اليوم:

”أهلي ما بيوخذوني معهم في مشاويرهم .. لأنه بيقولوا عني منحوسة .. وبيقولوا (قال) أنو أي مكان بروح عليه لازم لازم تصير مصيبة“

وضحكت مرة أخرى .. فأنا .. لا أؤمن بالنحس والمناحيس ..

2014/05/24

أم قيس

يوم الخميس، كان عيد ميلاد هنادي .. كنت قد اتفقت مع زوجتي أن نذهب معاً يوم الجمعة - أنا وهي فقط - لكي نزورها ونطمئن عليها .. ونعود (ع السريع) ..

في الحادية عشرة، قالت زوجتي:

- ”الساعة 12 بالزبط بنتحرك .. منيح“

- ”منيح“

في الحادية عشرة والنصف قالت زوجتي: ”يالله؟ شو .. لساتك ما جهزت؟“

- مشطت (الكُشّة) -ع السريع- وقلت لها: ”أنا جاهز!“

وخرجت .. فوجئت بديانا .. في يدها كتاب .. وتقول: ”أنا جاي معاكم“

- ”آر يو شور“

- ”يس“

* * * * * * *

عندما وصلنا، نزلت زوجتي وديانا من السيارة .. وجلست أنتظر .. بعد قليل عادتا ومعهما هنادي ..

- ”بتحبوا نتغدى بمطعم ولا ناخذ أكل ونروح نقعد في مكان حلو؟“

- ”نقعد في مكان حلو“

استعرضت في ذهني قائمة الأماكن (الحلوة) التي ذهبنا إليها سابقاً ..

- ”طريق أم قيس فيه قعدات حلوة .. شو رايكم؟“

- ”يللا“

في الطريق إلى (الطريق) غيرت طريقي .. وبدلا من أن أنعطف إلى طريق جانبي يوصل إلى (الطريق) واصلت مسيري إلى الأمام ..

- ”شو؟ غيرت رأيك؟“

- ”لا .. بس بنروح ع الشونة الشمالية .. ومن هناك بنطلع لأم قيس .. أكيد هسه الطريق من الشونة لأم قيس بيجنن“

وصلنا الشونة الشمالية وانعطفنا إلى طريق جانبي ضيق، مروراً بسد العرب ..

ومع أننا سلكنا ذات الطريق (في مرة سابقة) إلا أن زوجتي قالت:

- ”هاد المكان حلو .. يالله نقعد هون“

نظرت إلى المكان .. صحيح أنه جميل .. وصحيح أنه كانت تجلس بعض العائلات .. تستظل بظل شجرة هنا وهناك .. ولكنني قدّرت أننا لن نكون (مبسوطين) هناك بسبب حرارة الجو في تلك المنطقة في هذا الوقت من السنة ..

صعدتْ السيارة الطريق الضيق المتجه من الشونة إلى أم قيس .. وكلما مررنا على شجرة ذات ظل تقول زوجتي:

- ”هون منيح .. نقعد هون؟“

كانت زوجتي تريد أن تقنعني (بذلك) بعدم الاستمرار في الصعود في ذلك الطريق الضيق الملتوي ..

كإجراء احترازي كنت (أزمر) عند كل منعطف .. لكي أنبه أية سيارة قد تكون في تلك اللحظة مختفية خلف واحد من تلك المنعطفات ..

- ”بيكفي تزمير .. شو انت ماشي بعرس؟“

وأخيراً ..انتهت المنعطفات الحادة .. صحيح أن الطريق ظل ضيقاً .. ولكننا وصلنا منطقة منبسطة وبلا تعاريج حادة .. استرخت زوجتي، وتوقفت عن اقتراح التوقف والجلوس تحت ظل أي شجرة على جانب الطريق ..

وصلنا إلى أم قيس ..

- ”تقعدوا هون ولا نظل ماشيين مطرح ما كنا ناويين؟“

- ”لأ نقعد هون“

وقعدنا (هون) ..

و (هون) تعني نفس المكان الذي قعدنا فيه في المرة الماضية .. ليس نفس المكان بالضبط .. لأن عائلة أخرى كانت قاعدة (محلّنا) .. فجلسنا في (هون) أخرى .. قريبة من (هون) التي كنا ننظر إلى من جلسوا هناك باعتبارهم .. (يا عيب الشوم) .. قد أخذوا مكاننا ..

ما علينا .. فـ(هون الجديدة) كانت مكاناً جميلاً أيضاً .. وساهم العاملون في المكان بجعله أكثر راحة لنا عندما أحضروا (غرفة) تقينا أشعة الشمس المباشرة .. جلسنا في ظلها .. وفتحنا أكياس الغداء ..

لم نكن وحدنا من هجم على الغداء .. في البداية ظهرت (من الغيب) ذبابة أو ذبابتان .. ثم .. ويا للهول .. نحلة!

وفي الحقيقة فإن (معركتنا) مع الذباب كانت (نزهة) مقارنة مع معركتنا مع النحل ..

في البداية ظهرت نحلة .. ظلت تحوم محاولة مشاركتنا في الشرب من علب البيبسي .. كنت قد شربت نصف العلبة عندما اقتربت النحلة .. هدّت على العلبة .. ثم .. دخلت فيها .. أحكمت إغلاق علبة البيبسي لأمنعها من الخروج ..

قالت ديانا:

- ”بابا خض العلبة“

خضيت العلبة .. ففارت محتوياتها وخرجت منها رغما عني ..

أخذت ديانا العلبة ورمتها في حاوية قريبة ..

بعد قليل كان هناك غيمة من النحل تحوم حول العلبة التي رمتها في الحاوية ..

اقتربت نحلة أخرى لتحوم حول هنادي .. كانت هنادي تلبس (جاكيت) أصفر .. وربما اعتقدت النحلة أن هنادي وردة صفراء

- ”طرااااااخ“

كانت تلك ال (طراخ) هي صوت حذاء الوردة الصفراء وهو يسحق النحلة ..

من الواضح أن ديانا كانت مشفقة على النحلة التي كانت قد سُحقت جزئيا بحذاء (الوردة الصفراء) .. لأنها أمسكت بشيء ما .. وأخذت تكمل سحق النحلة ..

- ”حرام .. حرام .. قاعدة بتتعذب .. حرام .. حرام“

وأكملت ديانا مهمتها (الإنسانية) في تخليص النحلة المسكينة من عذابها ..

كان العاملون في الاستراحة يعملون بهمة ونشاط في تثبيت الأضواء والسماعات استعداداً لبث أحدى المباريات على شاشة كبيرة .. وفي الأثناء وضعوا بعض الأغاني .. وكانت إحدى أشجار الورد تتمايل مع الهواء .. قلت لهنادي:

- ”صوّري أغصان الشجرة والورود بتتمايل مع ألحان الأغنية“

أمسكت هنادي بموبايلها لتصور الشجرة ..

- ”صوّريها من قريب“

أحسّت ديانا أن الشجرة لا ترقص مع الألحان كما يجب .. فأمسكت بغصنين من أغصانها .. وأخذت ترقّصهما مع اللحن الجميل ..

ذهبت هنادي وديانا إلى تواليت السيدات .. كان هنالك شجيرة ورد .. أعجبت ديانا .. إلتفتت يمينا ويساراً لتتأكد أنه لا يراها أحد .. وقطفت وردة .. اقتربت من هنادي هامسة:

- ”حطيها في الشنتة .. بسرعة بسرعة .. حطيها في الشنتة“

عندما ذهبت أنا إلى تواليت الرجال .. كان هناك كهل .. عندما رآني قال بابتسامة:

- ”أهلاً وسهلاً“

وسبقني إلى الداخل .. وفتح باباً من أبواب الحمامات المتجاورة في صف طويل قائلاً:

- ”ده أحسن واحد .. إحنا بنقفله على طول وما بنفتحهوش إلا للناس اللي زي حضرتك كده“

وعندما خرجت وقف قريباً مني إلى أن انتهيت من غسل يدي بالماء والصابون .. ومد لي يده ب(باكيت الكلينكس) .. قائلاً:

- ”شفيتم .. يا سعادة البيه“

كانت الساعة قد اقتربت من السابعة .. قمنا متجهين إلى السيارة .. قلت للرجل الذي استقبلنا:

- ”احنا حاسبنا على كلشي ما عدا الشاي“

- ”الشاي ضيافة من المحل“

شكرته .. وانطلقنا عائدين .. وكانت الشمس في تلك اللحظات تتأهب للغروب.

دنننننننج

لا أحب التخطيط للرحلات .. وأحياناً أخرج من البيت برفقة زوجتي وابنتي بِنِيَّة (تغيير الجو شوية) وعمل جولة قصيرة لمدة (ساعة زمان) في شوارع أبو نصير وشفا بدران وما حولهما مع التأكيد على أن لا تزيد جولتنا عن (ساعة مش أكثر عشان البنت ترجع تدرس) .. وفي لحظة ما .. تلتمع في رأسي فكرة: دنننننننج .. ألتفت إلى زوجتي وابنتي وأسألهما:

- ”شو رايكم نروح شارع المطار؟“

تهلل ابنتي الجالسة في المقعد الخلفي:

- ”ياااااااااااي .. آه بدّي بدّي بدّي“

تردّ زوجتي:

- ”شارع المطار؟ مش بعيد شويّ؟“

أطمئنها بأنّنا لن نتأخر ..

- ”ويا ستّي البنت حابّة تروح .. ساعتين بسّ مش أكثر .. بنقيس الطريق وبنرجع .. ماشي؟“

يأتي صوت ديانا من المقعد الخلفي:

- ”يا ماما يا ماما ساعتين زمان بس ..“

فتقول زوجتي:

- ”طيب .. بس ساعتين وبترجعي تدرسي (لإنو أولاد الجيران أكلوا الكتب أكل)“

ونتجه إلى صويلح فطريق المدينة الطبية فالدوار السابع فطريق المطار .. تلتمع في رأسي فكرة: دنننننننج .. ألتفت إليهما:

- ”شو رايكم نفطر في استراحة القطرانة؟“

تهلل ديانا من الكرسي الخلفي:

- ”ياااااااااي“

تقول زوجتي:

- ”بس يا محمد البنت .. والدراسة“

فأرد:

- ”يا ستّي .. بنفطر وبنرجع .. بعدين القطرانة مش بعيدة .. بزيادة نص ساعة زمان .. ها؟ شو قلتوا؟“ ..

نصل إلى القطرانة .. أنظر إلى عداد البنزين ..

- ”إسبقوني جوه ع الاستراحة .. بعبي بنزين وبلحقكم“

ترد زوجتي:

- ”شو نطلب؟“ ..

أنظر إلى ساعة السيارة .. فأنا لا أحمل ساعة يد .. لا أحب ساعات اليد .. وفي الحقيقة لا أحب الساعات كلها ..

- ”الساعة هسه صارت 11 ونص تقريبا .. إذا بلشوا يقدموا مشاوي اطلبي مشاوي .. زماااااان ما أكلنا مشاوي“ ..

تدخل زوجتي وديانا إلى الاستراحة .. (أفلل) بنزين .. وألحق بهما إلى داخل الاستراحة ..

بعد هذا الإفطار المتأخر نخرج من الاستراحة .. نتجه جنوباً لكي ننعطف عند أول (يو تيرن) عائدين إلى عمّان .. وقبل أن نصل الـ (يو تيرن) بقليل تلتمع في رأسي مرة أخرى فكرة: دنننننننج .. أطنش ال(يو تيرن) وأتجاوزه .. تصيح زوجتي:

- ”ليش ما لفيت ع الـ (يو تيرن)“ ..

- ”ييييييييييييي .. نسيت .. يللا بسيطة .. بنلف ع اليو تيرن الثاني ..“

ولكنني لا ألف على اليو تيرن الثاني .. ولا الثالث .. ولا الرابع ..

وفي كل مرة يرتفع احتجاج زوجتي:

- ”محممممممممممممممااااااااد!“

فيرتفع صوت ديانا بالتهليل:

- ”يااااااااااااااي .. ع العقبة؟ ياااااااااااي“

أطمئن زوجتي:

- ”اسمعي .. زمان ما أكلتي سمك طازة .. صح؟“

فترد زوجتي:

- ”مممممممم سمك؟ آه والله .. بس اسمع .. بنطلب سمك الفارس .. كثير طيب .. بس بنتغدى وما نتأخر. ماشي؟“

- ”ماشي“ ..

وأبتسم ..

طريق العقبة واسع .. وطويل .. تقول زوجتي:

- ”تعبت؟ اذا تعبت بريحك بالسواقة“

أرد عليها:

- ”لما أتعب بحكيلك“

بعد عشر قائق .. تعيد زوجتي السؤال:

- ”ما تعبت؟“

كررت السؤال أكثر من مرة .. فكان لا بد أن .. أفهم ..

صفيت السيارة على يمين الطريق .. واتجهت مشياً على رمال الصحراء، مبتعدا عن السيارة بما يكفي .. فقد أحسست بحاجة إلى أن أعمل (زي الناس) ..

عندما عدت إلى السيارة كررت زوجتي السؤال نفسه:

- ”بتحب أسوق عنك؟“

- ”ماشي يا عسل“

جلست زوجتي في مقعد القيادة .. وواصلنا المسير باتجاه العقبة .. قبل وصولنا إلى العقبة بقليل تنحّت زوجتي لي عن مقعد القيادة .. بدت لنا مياه الخليج من بعيد، زرقاء تتلألأ تحت أشعة الشمس .. دخلنا العقبة .. وصففت السيارة على الشارع الممتد بموازاة الشاطئ ..

كانت الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر .. وكانت أشعة الشمس حارقة .. وكانت الرطوبة في الجو عالية .. جلسنا نستريح من تعب السفر، على حافة سور منخفض قريب من المياه .. ذهبت زوجتي وديانا إلى أقرب حمامات عمومية .. وفجأة رن هاتفي .. كان رقم هاتف زوجتي .. ولكن بدلا من أن أسمع صوتها كان على الطرف الآخر صوت رجل غريب:

- ”المدام هون .. هيها بدها تحكي معك“

- ”خلص .. مش قادرة .. هسه بدنا نروح ع عمان“

- ”ليش؟ مالك؟ شو في“

- ”جيب السيارة هسه هسه“

- ”طب انتو وين؟“

أعطت زوجتي الهاتف للرجل ليصف لي المكان .. كان المكان لا يبعد عن مكان وقوف السيارة أكثر من مائة متر .. وكان عليّ أن أدخل عكس السير لأصل إليها .. أوقفني الشرطي الجالس في كشك الشرطة على رأس تلك الدخلة ..

- ”ممنوع“

شرحت له الموقف باختصار .. فسمح لي بالدخول .. كان وجه زوجتي كبرتقالة ناضجة وكان العرق يتصبب منها .. ركبت زوجتي وديانا السيارة .. خلعت منديلها، وشغلت التكييف بعصبية ..

ومن أقرب يو تيرن انعطفت إلى بداية طريق العودة إلى عمان .. عندما .. التمتعت في رأسي فكرة: دنننننننج ..

توقفت بقرب أول فندق ألمحه .. دخلت .. سألت الشاب المصري الذي يجلس في الاستقبال ..

- ”عندك غرفة فاضية؟“

- ”كام شخص“

- ”ثلاثة“

-تفقد الشاب لوحة المفاتيح .. ثم نادى على زميله ..

- ”يا محمد .. خود الأستاذ خليه يشوف غرفة 205“

- ”طيب خليني أجيب الجماعة وبعدين بنشوفها“

عدت إلى السيارة ..

- ”يللا انزلوا .. هي ربنا سهلها .. في غرفة فاضية“

انبسطت زوجتي .. صعدنا إلى الغرفة .. شغل الشاب الذي أوصلنا إلى غرفتنا التكييف .. والتلفزيون .. وأنزل الستائر .. بعد أن استرحنا قليلا نزلت أنا وديانا إلى أقرب محل لبيع المناشف والبشاكير وما شابهها من احتياجات زائر مفاجئ لم يحسب حساب رحلة مماثلة .. وبعد غروب الشمس نزلنا إلى المطعم المقابل للفندق .. طلبنا سمكة طازجة من سمك الفارس .. ثم جلسنا على شاطئ الخليج في الهواء العليل .. وكانت مياه الخليج ترتفع قليلاً قليلاً مستجيبة لجاذبية القمر ..

في صباح اليوم التالي .. خرجنا من الفندق .. تناولنا فطورنا في مطعم قريب .. جلسنا قليلا على شاطئ البحر ..

لم أستطع مقاومة إغراء المياه فنزلت .. كانت المياه باردة .. ولكن أرغمت جسدي الذي تفاجأ ببرودتها على الانسجام السريع بأن غمرته سريعا بالمياه .. لم يستغرق الأمر طويلا عندما ذهب الإحساس ببرودة المياه ليحل محله شعور لذيذ .. ناديت على زوجتي وابنتي لينزلوا إلى المياه .. رفضت زوجتي .. أما ديانا فمانعت قليلا .. ولكنها أخيرا اقتربت من المياه خائفة متوجسة .. اقتربت منها .. أمسكت يدها .. ظلت واقفة على مقربة من الشاطئ .. كانت المياه قد وصلت إلى ما دون ركبتيها بقليل ..

- ”خلص .. لهون وبس .. خلينا هون“

- ”لا تخافي .. خلينا نفوت كمان شوي ..“

- ”ولا سانتي“

حاولت أن أشدها باتجاه المياه الى المنطقة التي يمكن على الأقل أن نطفو فيها .. أو أن نجلس في مياهها بحيث تغمرنا المياه حتى أكتافنا ولكنها تشبثت بي وكانت تشد يدي إلى الوراء باتجاه الشاطئ ..

- ”خايفة يا بابا!“

- ”هيني ماسكك .. لا تخافي ..“

- ”ما بدي ..“

يئست من المحاولة .. ملأت كفي بالمياه ورشقتها عدة مرات سريعة متلاحقة ..

صرخت ديانا:

- ”آي هيت يو!“

أجلستها على صخرة كانت وسط المياه قريبة من الشاطئ .. وغمرت نفسي بالمياه ..

* * * * * * *

وأخيراً .. كان لا بد أن نعود إلى عمان .. فــــ .. أولاد الجيران .. أكيد .. (أكلوا الكتب أكل) ..

توقعات

لا تعلي من سقف التوقعات فيصطدم راسك بسقف الواقع

2014/05/22

الكبير

لم يفكر أبداً بالزواج من غيرها، لا عندما كانت حية ترزق، ولا بعد أن توفيت. كانت (مُنية) حياته، وقرة عينه، ومهجة قلبه، وحشاشة كبده. وعندما توفيت حزن عليها حزناً شديداً. صحيح أنهما تزوجا زواجاً تقليدياً، ولكنه اكتشف فيها (بعد الزواج) ما جعله يرى فيها كل النساء. ورغم أنه كان يعلم أن الكثيرات تتمنى كل منهن أن يختارها زوجة له، لوسامته، وقوته، وغناه، وطيبة قلبه، إلا أنه ظل على حبه وإخلاصه لها ..

ولكن منية لم تنجب له من يملأ عليه حياته بعدها .. صحيح أن كل من في القرية - التي يمتلك تقريباً كل أراضيها - يحبونه ويحترمونه ولا يعصون له أمراً .. بل ويتسابقون على إرضائه بما يطلب، وبما يعتقدون بأنه سيكون سعيداً به لو فعلوه، فقد كان كريماً معهم غاية الكرم .. بل وسمح لبعضهم أن يبنوا لهم بيوتاً على أي قطعة يختارونها من أرضه المترامية الأطراف .. كانوا يدركون أنه يستطيع أن يمنعهم لو شاء .. ولكنه لم يشأ .. بل إن بعضهم تشجع عندما رأى تسامحه مع غيره فبنى دون استئذانه أو إعلامه .. كان يرى كل ذلك .. فيبتسم .. ويسكت .. وشجعت ابتسامته وصمته بعضهم فأضاف له حول بيته مساحة من الأرض، فيها شجرة أو شجرتين أو أكثر، من الأشجار المثمرة .. ثم بنى حولها سوراً .. وكتب على مدخل ذلك السور اسمه ولقبه وكنيته .. كان يرى كل ذلك ويسكت .. ويقول في نفسه: مساكين .. لن أخسر شيئا إن بنوا أكواخاً لهم على أرضي تقيهم حر الصيف وبرد الشتاء .. هي لي أولاً وأخيراً وهم يدركون ذلك ..

ولكن حبهم واحترامهم لم يخفف شعوره بالوحدة .. ولا منع تزايد قلقه .. فالأيام تمر .. وها هي الشعيرات البيضاء بدأت تغزو شعر رأسه وشاربيه ولحيته .. وبدأ يحس بالتعب في جولاته الصباحية والمسائية مع أبي نارة (كبير الخدم)، متفقداً أرضه وما عليها ومن عليها .. وأسرّ بذلك، ذات تعب، لأبي نارة، فقال له: طال عمرك يا كبير .. أنت أقعد وارتاح وما عليك .. إحنا ليش هون؟ مش عشان راحتك وخدمتك .. يا كبير كلنا هون بنستنى إشارة من إصبعك الزغير .. يا كبير أنا وجماعتي كلنا تحت أوامرك وبخدمتك ..

أحس الكبير برعشة .. ثمة كلمة في الجملة الأخيرة لم يفهمها .. لا. لقد فهمها ولكنها أصابته بقلق ظل يكبر ويكبر حتى صار غضبا متوهجاً ..

- جماعتي؟

ارتبك أبو نارة ..

- قصدي الشباب يا كبير .. خدامينك يا كبير ..

- لحظة لحظة لحظة .. شو قصدك جماعتي؟

زاد ارتباك ابي نارة

- قصدي ..

- إسمع يا ابو نارة .. هاي أول مرة وآخر مرة بسمعك بتقول هالكلمة .. فاهم؟

- حاضر يا كبير

- رد ع السؤال .. بقلك فاهم؟

- فاهم يا طويل العمر

أخذ الكبير يتذكر مواقف أبي نارة .. يحللها .. ويرى فيها أشياء لم تخطر على باله من قبل .. تذكر عندما عرض عليه أبو نارة أن يتزوج ابنته، وهما عائدان من دفن منية .. قال له يومها: يا طويل العمر .. إنت لساتك زغير ومش معقول تظل بدون مرا تخدمك و (تشوف طلباتك) .. يومها انتهرته وقلت له: يا عيب الشوم يا ابو نارة .. إيديي لساتهم مغبرات بتراب منية وبتطلب مني أتجوز بنتك؟ ما حبيتها منك هاي يا أبو نارة .. ما حبيتها منك ..

وتذكر أن أبا نارة عاد إلى التلميح له بالموضوع أكثر من مرة .. بل وأحضر ابنته أكثر من مرة وكان يقول لها في كل مرة على مسمعه: أي إشي بيطلبه الكبير أوامر .. لو طلب عيونك بتعطيه اياهم .. فاهمة؟ تذكر كل ذلك الآن .. وتذكر النظرات المتبادلة بين أبي نارة وابنته .. نظرات لم يفهمها وقتها ولم يفطن إلى ما وراءها .. تذكر الكبير عندما كانت ابنة أبي نارة تلمس يدها يده وهي تقدم له الشاي مثلاً فيما ظنه وقتها لمسات غير متعمدة .. وتذكر أنها كانت تنحني أمامه وهي تقدم له الشاي انحناءة أكثر من اللازم .. انحناءة تتيح لعينيه أن يريا .. جزءاً كبيراً من صدرها .. ولكن حزنه الشديد أيامها على منية جعله يرى ذلك كله ولا يراه .. وتذكر أيضا عندما جاءت الأرملة (أم أدهم) تشكو له أبا نارة وجماعته الذين حاولوا منعها عندما كانت (تلقط) الخبيزة لتصنع لها ولطفلها وجبة غداء .. وتذكر عندما لمح له بعضهم أن أبا نارة وبعض الخدم يطالبونهم بمبالغ ادعوا أن الكبير أمرهم أن يطالبوهم بها .. كان أبو نارة ينكر ذلك ويقسم في كل مرة أنهم كاذبون وأنهم إنما يتقولون عليه لغاية في نفوسهم لا يعلمها .. أو .. ربما كان ذلك حسداً منهم له وطمعاً في ان يحلوا مكانه قرب الكبير وفي خدمته ..

تذكر الكبير كل ذلك .. وبدأ يشعر بخوف جدي .. وبقلق متزايد .. هذه الممتلكات الشاسعة يجب أن تكون بعدي لمن أثق به وأطمئن إليه .. من الواضح أن هذا الـ (أبو نارة) يخطط لشيء ما .. شيء ما ذي رائحة كريهة .. في هذا الأبو نارة شيء ما يجعلني أتوجس منه .. لا .. لن أسمح له أبداً أن يصل إلى ما يريد ..

في جنح الليل .. تلمس الكبير طريقه خفية إلى بيت أم أدهم .. تفاجأت المرأة عندما فتحت الباب لتجد الكبير بنفسه وراءه واقفا في الظلام ..

-كيفك يا أم أدهم؟ وكيف الصبي؟

ارتبكت أم أدهم ..

- عايشين في خيرك يا كبير

- ناقصك إشي يا بنتي؟

- مستورة يا كبير

- اسمعيني منيح يا بنتي ..

كانت أم أدهم تستمع إليه وعيناها ممتلئتان بالدموع .. تحدث الكبير كثيرا .. ظلت أم أدهم صامتة إلى أن قال لها الكبير أخيراً:

- اتفقنا يا بنتي؟ بكرة الصبح ببعثلك حدا يساعدك في حمل أغراضك .. إبنك راح يكون إبني .. وإنتي راح تعيشي في بيتي مع إبنك معززة مكرمة وكل طلباتك أوامر .. اتفقنا؟

انتقلت أم أدهم للعيش في بيت الكبير .. وكم كانت سعادة الكبير عندما وصل أدهم سن الدخول إلى المدرسة .. وكم كانت سعادته عندما كان معلمو أدهم يمدحون ذكاءه وشطارته .. بل ونبوغه وعبقريته .. يومها أمسك الكبير بيد أدهم ودخل به إلى المضافة .. كان من الواضح أن الكبير في أوج سعادته بأدهم وكأنه ابنه الذي لم تلده منية ..

- يا أدهم .. احكي للجماعة شو أخذتوا اليوم بالمدرسة!

وأخذ أدهم يستظهر أمامهم كل ما تعلمه في المدرسة من آيات وأحاديث وأناشيد .. وكان الكبير يهز رأسه مع كل كلمة تخرج من فم أدهم .. وحانت من الكبير التفاتة إلى أبي نارة فرأى في وجهه اسوداد الرماد المتراكم في الكانون الذي يتوسط المضافة وقد نصبت عليه دلال القهوة ..

تنحنح الكبير فأنصت الحضور جميعاً ..

- يا جماعة عندي كلمتين بدي الكل يفهمهم منيح .. والحاضر يحكي للغايب .. أنا قررت إكتب لهذا الصبي .. أدهم .. كل ممتلكاتي من بعدي .. ومن هون لهظاك اليوم بدي منكم كلكم تعتبروه بمثابة إبني .. وما بدي أسمع في يوم من الأيام من أي واحد منكم أي كلمة هيك ولا هيك ..

ثم التفت إلى أدهم قائلاً: وانت يا أدهم .. انت صحيح لساتك زغير .. بس هيني بقلك قدام الموجودين كلهم .. كل واحد من هالموجودين لازم تعتبره عمك أو خالك أو أخوك .. إذا حبيتهم بيحبوك .. وإذا احترمتهم بحترموك .. واذا أعطيتهم عيونك بعطوك عيونهم. فاهم يا إبني؟

- فاهم يابا

اغرورقت عينا الكبير بالدموع .. دموع السعادة الغامرة .. فأدهم بالنسبة إليه هو ذاته التي ستستمر بعده .. استغرق الكبير في تفكير بالخطوات والترتيبات التالية التي ينبغي عليه أن يقوم بها .. ولكن صوتاً مرتجفاً أخرجه من استغراقه اللذيذ ..

- بس هاظ غلط يا كبير .. مين هو أدهم حتى يصير كبيرنا بعدك؟ قصدي بعد عمر طويل؟

كان صوت أبي نارة ..

احتد الكبير ..

- شو قلت ولك؟

- مهو يا كبير .. انت عارف مين أبوه ومين أمه؟

- إخرس .. أدهم إبني

قهقه أبو نارة ونظر إلى الكبير نظرة مجنون هارب من احدى المصحات العقلية .. ثم نظر إلى أدهم .. ثم إلى الموجودين واحداً واحداً ..

- إبنك؟ هاهاهاها .. عن جد؟ شو هالمفاجأة؟ واحنا من زمااااااااان بنحكي هالولد لمين؟ وآخرتها طلع إبنك؟ وأنا من هبلي قال بدي اجوزك بنتي! هاهاهاها

انتفض الكبير واقفاً ..

- إخرس يا حيوان .. أنقلع من هون .. وما بدي أشوف وجهك مرة ثانية

كان الجنون قد وصل مع أبي نارة إلى الدرجة التي لم يعد بعدها قادراً على إيقاف سيل الكلمات التي خرجت متداخلة من فمه:

- مش من حقك يا كبير .. إحنا قضينا طول عمرنا بنخدم فيك عشان آخرتها تجيبلنا إبن حرام يدندل إجريه على كتافنا؟

- إخرس يا حقير

- ما بدي أخرس

- طلعوه برا .. براااااااا

- أطلع بره؟ طيب .. ماشي يا كبير .. ماشي .. أنا طالع .. بس بحب تعرف شغلة .. وحياة هالشيبات ما راح اتركك تتهنى لا انت ولا ابن هالحرام ..

- براااااااااا

وخرج أبو نارة .. ولحقه بعض الموجودين ..

- اسمعوا .. من هاي اللحظة أبو نارة واللي لحقوه ممنوع يظلوا بهالبلد .. أدهم إبني .. واللي عاجبه عاجبه واللي مش عاجبه يقلب وجهه ويوريني عرض كتافه ..

- طلباتك أوامر يا كبير ..

وقف الكبير فوقف أدهم والموجودون ..أمسك الكبير بيد أدهم .. اصطفوا جميعا وتقدموا واحداً واحداً إلى المكان الذي وقف فيه أدهم إلى جانب الكبير .. قبلوا يد الكبير .. ثم يد أدهم .. وانصرفوا إلى بيوتهم.

لم ينس الكبير تهديدات ابي نارة .. ومنذ تلك الليلة لم يعد أدهم يرى في أي مكان بلا حراسة ..

2014/05/19

إخلاص

أنهيت عمل الشاي بالنعناع، الشاي بالنعناع الذي يحبه سيدي، وضعت إبريق الشاي والسكرية وكاستين فارغتين على صينية واتجهت إلى الشرفة التي كان يجلس فيها سيدي وسيدتي يستمتعان بمنظر غروب الشمس وهما يستمعان إلى أم كلثوم تغني ”شمس الأصيل“ .. انحنيت أمام سيدي وسيدتي وأنا أقدم لهما الشاي .. وكان سيدي ينظر إلي بتمعن غريب وكأنه يراني لأول مرة ..

- اقعدي يا بنتي

قالت سيدتي بصوت منخفض .. فيه، إلى جانب الحزم الذي تخاطبني به عادة، رقة لم أعهدها ..

تلفت حولي .. كان هناك كرسي ثالث إلى جانب الكرسي الذي كانت تجلس عليه سيدتي ..

وقفت أمامهما، محنية الرأس، شابكة أصابعي وقلت:

- يا عيب الشوم يا ستي .. معقولة أقعد معك ومع سيدي

ولكنها كررت بكل الحزم الذي تعودته منها:

- اقعدي

جلست متربعة على الأرض .. ولكنها انتهرتني ..

- تعالي اقعدي ع الكرسي .. جنبي .. هون

- بس يا ستي ..

- قلتلك تعالي!

لم أمتلك أمام الحزم والإصرار في صوتها ونظرتها إلا الامتثال .. فجلست على طرف الكرسي الثالث ..شابكة أصابعي في حجري .. ساد صمت للحظات .. كانت خلالها عيناي متسمرتين في رخام ارضية الشرفة وكأنني أحصي خطوطه وتعرجاته ..

فجأة قام سيدي حاملاً كاسة الشاي التي كان قد شرب نصفها قائلاً:

- أنا رايح جوة .. أسيبكم تتكلموا على راحتكم ..

نظرتُ إلى سيدتي بتساؤل ..

نظرَتْ إليَّ سيدتي نظرة طويلة .. أحسستها تسري في عروقي مع الدم لتسبر غور كل خلية من خلاياي .. ثم قالت:

- إسمعيني منيح يا إخلاص ..

تحدثت سيدتي مطولاً .. كنت طيلة الوقت أستمع وعيناي مفتوحتان على آخرهما .. في البداية لم أستوعب ما كانت تقول .. وعندما استوعبت لم أصدق .. وعندما صدقت تركتني في ذهول شديد وهي تقول:

- فكري منيح باللي قلتلك اياه .. معك أسبوعين تفكري .. ويا ريت يكون جوابك آه .. لأنه إذا ما كانش آه راح أزعل كثير .. وإذا زعلت أنا راح يزعل سيدك .. فاهمة؟

- فاهمة يا ستي ..

- على فكرة .. أنا وسيدك متفقين الموضوع يكون سري .. يعني حسّك عينك حدا غيرك يعرف بالموضوع .. ويا ويلك إذا بنعرف إنه في حدا معه خبر .. فاهمة؟

- فاهمة يا ستي ..

وتركتني في ذهولي ..

* * * * * * *

كان سيدي وسيدتي قد تزوجا منذ ثلاثة سنوات تقريباً .. هذا ما أخبرتني به سيدتي بصوت حزين .. كانا ينتميان إلى عائلتين من أكثر عائلات المنطقة ثراءً .. إلا أن الود كان مفقوداً بين العائلتين .. التقيا في الجامعة وأحب كل منهما الآخر .. وكان حباً عارضه أهلها وأهله .. ولكن العائلتين لم تملكا أمام إصرارهما إلا الرضوخ .. حصل الزواج فعلاً .. إلا أن ذلك لم يزد عائلتيهما إلا تباعداً ونفوراً .. وكانت النتيجة أن كليهما انسحب تدريجيا من عالمه ليخلقا معاً عالمهما الخاص ..

بعد زواجهما بأقل من شهر جاءتها الدورة .. ثم جاءتها ثانية وثالثة ورابعة .. في المرة الأولى كان هناك مجرد تساؤل بسيط في عينيها وعينيه .. في المرة الثانية كانت علامات الاستفهام والدهشة أكبر ..في المرة الثالثة كبر القلق .. في المرة الرابعة كانت نظراتها إليه ونظراته إليها، تحمل نوعاً من الإتهام المبطن .. لم يبح أي منهما للآخر بتلك الشكوك .. ولكن الصمت كان مدوياً .. وأخيراً كان لا بد من المصارحة ..

- إنتي لازم تروحي ع دكتور

- وانت كمان لازم تروح ع دكتور

هذا ما كان .. ذهبا معاً .. هي إلى أخصائي نسائية وهو إلى أخصائي مسالك بولية وتناسلية .. ثم إلى ثانٍ وثالث ورابع .. أجريا كل الفحوصات والتحاليل .. ابتلعا كل الأدوية التي كان يكتبها الأطباء .. تحول سرير الزوجية إلى مختبر .. وبدلا من نظرات الشوق والرغبة المتبادلة التي كانت تدفعهما دفعاً إلى السرير بلهفة جامحة تدفعه إلى حملها على ذراعيه إلى السرير وذراعاها تطوقانه بجوع مفترس ..، أصبح ذهابهما إلى السرير محكوماً بجدوال ومواعيد وحسابات وأرقام .. تحولت لقاءاتهما الليلية الى مجرد تجارب ومحاولات لإتمام تفاعل كيميائي .. كان يجب أن يسبق كل (تجربة) ابتلاع حبة من الدواء الفلاني وأن تتنتهي التجربة بتناول حبة أخرى من دواء آخر .. ومع فشل كل (محاولة) كان الألم يكبر في صدرها وصدره .. وازدادت فترات الصمت والسرحان ..

لم يمت الحب الكبير .. ولكنه أصيب بجرح كبير ..

* * * * * * *

كان عرض سيدتي - الذي تقدمت به إلي فيما يشبه الإنذار - هو عبارة عن .. صفقة .. صفقة لها ثمن .. خدمة مدفوعة الأجر .. نصف ذلك الأجر أقبضه عند إبرام العقد وتوقيعه .. ونصفه الآخر عند تسليم (البضاعة) ..

كنت، وقتها، صغيرة السن .. كنت في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة .. أخرجني أهلي من المدرسة رغم تفوقي .. لألتحق، كما التحقت أختاي قبلي، بخدمة البيوت، تلك البيوت التي كانت خيالاتنا تنسج حول ما يجري خلف أسوارها العالية شيئاً قريباً من حكايات ألف ليلة وليلة ..

كنت، قبل أن ألتحق بهذا البيت، أسمع ما ترويه أختاي، في تباهٍ، عن الحياة في البيوت التي خدمن فيها، وأتخيل نفسي في بيت مثل تلك البيوت .. لا كخادمة مثل أختيّ .. بل كسيدة، تأمر فتطاع .. وتشير بإصبعها فيتراكض الآخرون لتلبية رغباتها ..

وكان عرض سيدتي يتضمن - نوعاً ما - شيئاً من تلك التخيلات .. نموذجاً مصغراً .. كان يتيح لي أن أكون نصف سيدة .. ولمدة لا تقل عن تسعة شهور ..

* * * * * * *

دخل عليّ سيدي، بكامل أناقته .. جرى كل شيء بسرعة، بلا تمهيد، ولا مقدمات .. لم نتبادل كلمة واحدة: أطفأ النور، أنزل سرواله بما يكفي .. ورفع طرف ثوبي بما يكفي .. ثلاثة .. اثنان .. واحد .. صفر .. رفع سرواله .. وتركني أنزل طرف ثوبي بنفسي .. وخرج بكامل أناقته ..

* * * * * * *

في فجر اليوم التالي، أفقت كما أفيق كل يوم .. أعددت لسيدي وسيدتي مائدة الإفطار .. أنهيت عمل الشاي بالنعناع، الشاي بالنعناع الذي يحبه سيدي، وضعت إبريق الشاي والسكرية وكاستين فارغتين على صينية واتجهت إلى الشرفة التي كان يجلس فيها سيدي وسيدتي يستمتعان بمنظر الشروق .. انحنيت وأنا أقدم الشاي لهما .. لم يكن هنالك كرسي ثالث .. ووقفت شابكة أصابعي في حجري في انتظار الأوامر.

2014/05/17

الصوصة

كان الوقت عصراً .. وفي ظل المسجد الصغير كان أبي و (واحد من الشباب) - كما يحلو لهم أن يسموا أنفسهم - جالسين على (جنبيتين) فرشتا على (حصيرة) على ظهر البئر الذي لم يكن به قطرة ماء واحدة ..

كانا يتحدثان بحماسة عن الخلافة، التي أصبحت - في رأيهما - قاب قوسين أو أدنى .. ففلان وفلان وفلان (الضباط في الجيش) مخلصون، وقد وعدوهم خيراً .. وفلان، شيخ عشيرة كذا، متعاطف معهم في السر، وهو، على الرغم من مواقفه العلنية الموالية ل (النظام الكافر)، إلا أنه في الحقيقة من أشد المتحمسين للخلافة .. أما فلان وفلان وفلان، فهم تجار كبار، و (معهم مصاري زي الرز) .. وهم من أصدقاء الجماعة و (لن يبخلوا عليها ببعض حقها عليهم) .. أما (الأمة) فلن تسكت - طبعاً - على الهزيمة التي لحقت بها قبل ثلاثة عشر شهراً ..

كان الراديو، أثناء ذلك الحديث، مثبتاً على محطة البي بي سي .. وعندما دقت ساعة المحطة الثالثة أو الرابعة عصراً، سكتا ليستمعا إلى نشرة الأخبار .. فمن يدري .. ربما تحمل الأخبار لهم ذلك الحدث السعيد، الذي أصبح وقوعه وإعلانه مجرد مسألة وقت.

صعق أبي وجليسه .. فالمذيع لم يعلن ذلك الخبر السعيد .. وإنما: ”هذا، وقد أعلن راديو بغداد، أن البعثيين قد قبضوا على عبد الرحمن عارف، رئيس الجمهورية، وأنهم شكلوا مجلساً لقيادة الثورة، يترأسه كل من أحمد حسن البكر التكريتي وصدام حسين التكريتي ..“ ..

أغلق أبي الراديو بعنف .. وضربه بكفّ يده .. وكأنما يصفع المذيع .. وأحمد حسن البكر التكريتي .. وصدام حسين التكريتي .. والبعثيين جميعاً ..

نادى أبي بصوت كهزيم الرعد:

- يا مرااااااااا

ردت أمي من وراء الباب بصوت مرتعش: نعم؟

- شو صار بالغدا؟

تلجلجت أمي .. فقد أحست بغريزتها وخبرتها أن ثمة مصيبة قادمة لا محالة ..

- الغدا؟

- آه الغدا .. انشالله ما طبختي؟

- مهوووو .. ما في إشي أطبخه.

- كيف ما في؟ مش في عندك ملوخية ناشفة؟

- مبلى في

التفت إلي .. فانكمشت مذعوراً ..

- مش قلتلك ولك تروح تجيب صوصة من عند أبو العبد؟

وقع علي سؤاله كالصاعقة .. ونظرت إلى شجرة الرمان التي أبغضها في مثل هذه الحالات ..

نعم .. لقد طلب مني ذلك قبلها بساعات .. ولكن رعبي - بعد حادثة الوزات الثلاث - من كل ذي منقار قد دفعني إلى تطنيش ذلك الطلب ما استطعت إلى ذلك سبيلاً ..

لم أجد ما أقوله سوى: نسيت

وأدت شجرة الرمان دورها .. كم أبغضك يا شجرة الرمان .. وكم أحبك!

2014/05/16

من عيوني يا عيوني

توقّفَ قليلاً أمام الباب المغلق .. مسح عن وجهه آثار الابتسامات والقهقهات التي تبادلها في طريقه إلى البيت مع هذا وذاك .. تنحنح ليعيد لصوته خشونته المصطنعة .. وعندما اطمأنّ على أنّ كلّ شيء أصبح على ما يرام أدار مقبض الباب ولكنه كان مغلقاً من الداخل. طرق الباب بعنف .. سمع خطواتها وهي تقترب من الباب وتفتحه ..

- ليش مسكّرة الباب؟

- كنت نايمة، والأولاد من غير شرّ مش هون ..

- نايمة؟ يا حبيبي .. طبعاً نايمة .. نامي .. نامي .. نااااااااامي .. شو وراكي؟ مهو في بغل تحرثوا عليه طول النّهار ويجيبلكوا مصاري

- يعطيك العافية .. أحطّلك تتغدّى؟

- بدّيش أتسمّم

- أكلت برّة؟

-مش شغلِكْ

تركها تنظر إليه بيأس وأسى .. أسرع إلى غرفته .. بدّل ملابسه .. دخل إلى الحمّام .. دقائق وسمعَتْ صوت الماء الخارج من نياجرا المرحاض ليجرف ما ألقاه فيه .. ثمّ .. ها هو يخرج من الحمّام ..

- ما حدا يعمل دوشة .. بدّي أنام .. فاهمة؟

- طيّب

- بحكي معك عربي .. فاهمة ولّا لأ؟

* * * * * * *

فتح اللابتوب .. كانت ”سوسو“ على الفيسبوك ..

- هاي حبيبتي .. كيفك يا روحي؟ اشتأتلّك كتير!

* * * * * * *

في صباح اليوم التالي .. أفاق من النّوم .. مسح عن وجهه آثار الابتسامات والقهقهات التي تبادلها على الفيسبوك مع هذا وذاك .. تنحنح ليعيد لصوته خشونته المصطنعة .. وعندما اطمأنّ على أنّ كلّ شيء أصبح على ما يرام أدار مقبض الباب .. خرج من غرفته .. دخل إلى الحمّام .. دقائق وسمعَتْ صوت الماء الخارج من نياجرا المرحاض ليجرف ما ألقاه فيه .. ثم .. ها هو يخرج من الحمّام إلى غرفته .. دقائق ورأته بكامل أناقته .. ورائحة عطره تسبقه ..

- بتقدر تعطيني عشرين ليرة؟

- ليّات هوا؟

- الولاد صارلهم أسبوعين ع النّواشف .. بدّي أجيبلهم إشي أطبخلهم ايّاه

- هاظ اللي شاطرين بيه .. مصاري مصاري مصاري .. طبعاً يا عمّي .. مهو في بغل تحرثوا عليه طول النّهار ويجيبلكوا مصاري

أدار ظهره لها .. استلّ من محفظته عشرة دنانير ..

- معيش غيرهم .. وإمسكي إيدك .. المصاري مش مْرَمَّيِة بالشّوارع وبتقول لِمُّوني .. فاهمة ..

* * * * * * *

بعد أن ابتعد قليلاً عن البيت رنّ موبايله ..

- آه حبيبتي .. وين؟ إيمتى؟ من عيوني يا عيوني .. امممممممواااااااا .. سي يو سويتي.

2014/05/07

الحاجة خديجة

- محمااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااد

أيقظني صوتها من سابع حلم .. نهضت من فراشي كمن داس على زمبرك .. هرولت باتجاه غرفتها .. غرفتها التي هجرتها منذ أن .. ولكن تلك حكاية أخرى .. وجدتها جالسة على طرف سريرها تحملق في فتحة الباب الذي اقتحمت الغرفة منه ..

- خير شو في؟

- بسرعة خذني ع المستشفى ..

- ولك شو في؟

- خذني ع المستشفااااااااااااااااااااااااااا

هرولت إلى جيراننا أدق أبوابهم واحداً واحداً .. ففي هذا الوقت من الليل تخلو الشوارع من كل شيء .. من البني آدمين .. والسيارات .. ولن أجد فيها إلا قطط الليل تتعارك على ما قذفته بيوت الحارة في الحاويات ..

فتحت جارتنا أم عمر الباب وهي تجاهد لفتح عينيها اللتين أغلقهما النعاس بإحكام شديد .. وعندما ميزت هويتي فتحت عينيها بدهشة بالغة ..

- خير يا جار؟ شو في؟

- مرتي يا أم عمر؟

- ولك شو في؟

- مش عارف .. بدها أوديها ع المستشفى هسه ..

- آآآآآآآآآآآآآه .. معناتو .. طيب استنى أصحيلك أبو عمر ..

نزل معي أبو عمر إلى سيارته .. بينما ركضت أم عمر باتجاه باب شقتي المقابلة لشقتها في العمارة التي نسكنها معاً ..

حاول أبو عمر أن يشغل سيارته .. ولكنها تنّحت ..

- استنى بلكي صحينا أبو حسين ..

هرولنا معا إلى بيت جارنا أبي حسين .. ضغطت على جرس الباب مرة .. مرتين .. ثلاث مرات .. عشر مرات .. ولا أحد ..

- أكيد ما في حدا في البيت ولا كانوا صحيوا ..

خرجت أم عمر من باب شقتي وصرخت: روحوا ركض ع بيت الحجة خديجة .. يالله شو قاعدين بتستنوا؟

- مين هاي الحجة خديجة؟

- ولك تعاااااااااااال ..

قال أبو عمر وجذبني .. ذهبنا مشياً .. أقصد ركضاً .. لم أكن أعرف خديجة ولا بيتها .. ولكن أبو عمر هو الذي أنقذ الموقف .. لم يكن على باب بيتها جرس فطرقنا الباب .. خرجت إلينا امرأة في الخمسينات .. ولكن ملامح وجهها وتقاطيع جسدها لا توحي أبداً بأنها (حاجّة) .. ولعلها لاحظت استغراقي في النظر إليها فأخرجتني من البئر الذي كدت أن أصل قاعه ..

- خير شو في؟

- مرتي ..

- معاكو سيارة؟

- لا والله يا حاجة بس البيت قريب

- طب أوصفولي عنوان البيت

وصفناه .. أقصد وصفه لها أبو عمر ..

- ثواني ألبس وبلحقكو .. اسبقوني انتو ..

سبقناها ..

عندما اقتربنا، أبو عمر وأنا، من العمارة التي نسكنها، سمعنا صوت زوجتي يشق عنان السماء ..

لاحظ أبو عمر قلقي وارتباكي .. فقال لي: روق يا جار .. انشالله بسيطة .. ها لعاد بدك تصير (أبو) ع البارد المستريح؟

- أبو؟

- آه .. أبو .. وأنا اللي بنقي الحلوان ترا ..

وضحك .. فابتسمت ولكنني لم أخرج من ارتباكي وقلقي ..

بعدها بثوانٍ كانت (الحجة خديجة) في بيتي ..

- بسرعة سخن ميَه وجيبلي اياها .. يللا بسرعة لساتك واقف؟

ملأت السخان بالماء ووضعته على الغاز ..

- خلّصني هات الميّ

أحضرت لها الماء ..

* * * * * * *

ازداد صراخ زوجتي وتسارع .. وأخيراً .. سمعت صراخ طفل ..

* * * * * * *

خرجت الحاجة خديجة من باب الغرفة .. كان العرق يملأ وجهها ..

- مبروك .. شو بدكو تسمّوا العروس؟

- خديجة

ضحكت ضحكة ملأت الشقة وخرجت في سكون الليل إلى الشقق والعمارات المجاورة وكأنها ضحكة سكارى عائدين في آخر الليل إلى بيوتهم من الحانات ..

- شوفلك اسم زي الناس يا إبني .. هاظ إسم قديم وما بنفع لعروسات هالأيام

- مالك واقف؟ قال أبو عمر .. إعطيها اللي فيه النصيب خليها تروّح ع بيتها .. المرا هلكت الليلة معاكو ..

* * * * * * *

خرجت الحاجة خديجة بعد أن وعدتني بالعودة صباح الغد للاطمئنان على زوجتي وال(عروس) .. جلسنا أنا وأبو عمر .. وبين الفينة والفينة كانت أم عمر تخرج إلينا لتطلب مني إحضار شيء ما لزوجتي أو للـ (عروس) ..

* * * * * * *

- ليش بتسموها الحاجة خديجة؟ ليش ما بتسموها بإسم إبنها الكبير؟ أم فلان؟

نظر إلي أبو عمر باستغراب ..

- يا زلمة انت ولا كأنك عايش معنا بهالدنيا؟ الحاجة خديجة عمرها ما خلفتّ

- يعني مش متجوزة؟

- امبلى .. بس الله ما رزقها

- يعني أبتخلفش؟

سكت أبو عمر لثوان .. ثم قال:

- الله أعلم .. العوقة منها ولا من جوزها ..

- نصيب .. كلشي قسمة ونصيب

* * * * * * *

خرجت أم عمر .. كان من الواضح أن الإجهاد والنعاس قد دمراها تماماً .. سحبت أبا عمر من يده وقالت: مرتك نايمة .. والبنت كمان .. ما شالله عليها زي القمر .. خلينا نناملنا ساعتين .. بكرا .. قصدي اليوم الصبح .. برجع .. ناملك انت كمان شوي يا جار .. قدامكو أيام وليالي مش رح تناموا فيها زي العالم والناس ..

وبقيت وحدي .. أحاول النوم .. وأفكر بالحاجة خديجة.

2014/05/03

أنا وأنت، سيدي

أنا وأنتَ غيمتان في السّماءْ

تُجَمِّعُ الرّياحُ شملَنا لبرهةٍ قصيرةٍ

لكنَّها سرعانَ ما تبدِّدُ اللقاءْ

أنا وأنتَ لمْ نكنْ .. ولنْ نكونَ .. وردتينِ في إناءْ

لأنّنا على النّقيضِ دائماً

وكلُّ ما قلناهُ ذاتَ سكْرةٍ

أكذوبةٌ، يا سيّدي، اخترعتُها أنا، لكي أجمّلَ المساءْ

أنا وأنتَ، سيّدي، كملقطَيْ غَسيلْ

تصادفا لِمرّةٍ، أو مرّتين، في مناشرِ الهوى على رداءْ

وهزّنا يا سيّدي الهواءْ

تراقصَتْ أفراحُنا لساعتينِ، ربّما،

وربّما، كطفلةٍ ساذجةٍ،

تركتُ إصبعين من أصابعي

.. (أو ربما ثلاثةً) ..

تعيدُ رسْمَ حاجبَيْكَ شَعْرَةً فَشَعْرَةً

كطفلة ساذجةٍ، يا سيّدي،

تركتُ راحتيَّ تلمسانِ ذقنَكَ التي (نسيتَ) أنْ تحلِقَها

(كما ادّعيتَ وقتَها) ..

لتُحْكِمَ الحصارَ، سيّدي، عليَّ في دهاءْ

أنا وأنتَ، سيّدي،

لا شيءَ بيننا سوى ..

أنّي عشقْتُ لحظةً ..

وبعدَها توقّفَتْ عَقاربُ السّاعاتِ كلُّها

فلا النجومُ أكملتْ تَجْوالَها اليوميَّ، سيّدي

ولنْ تعودَ، سيّدي، لتَذْرَعَ الفضاءْ

أنا وأنتَ قُبلةٌ مؤجلةْ،

سيّارةٌ توقفَتْ عن المسيرِ سيّدي،

لأنَّ كلَّ شارعٍ تمرُّ فيهِ سيّدي

قد نُصِبَتْ أمامَها إشارةٌ غبيّةٌ حمراءْ

أنا وأنتَ سيّدي، سهمانِ مُمْعِنانِ في الرّحيلْ

فواحدٌ مُتَّجِهٌ إلى الأمامِ، سيّدي

وواحدٌ إلى الوراءْ