لم يفكر أبداً بالزواج من غيرها، لا عندما كانت حية ترزق، ولا بعد أن توفيت. كانت (مُنية) حياته، وقرة عينه، ومهجة قلبه، وحشاشة كبده. وعندما توفيت حزن عليها حزناً شديداً. صحيح أنهما تزوجا زواجاً تقليدياً، ولكنه اكتشف فيها (بعد الزواج) ما جعله يرى فيها كل النساء. ورغم أنه كان يعلم أن الكثيرات تتمنى كل منهن أن يختارها زوجة له، لوسامته، وقوته، وغناه، وطيبة قلبه، إلا أنه ظل على حبه وإخلاصه لها ..
ولكن منية لم تنجب له من يملأ عليه حياته بعدها .. صحيح أن كل من في القرية - التي يمتلك تقريباً كل أراضيها - يحبونه ويحترمونه ولا يعصون له أمراً .. بل ويتسابقون على إرضائه بما يطلب، وبما يعتقدون بأنه سيكون سعيداً به لو فعلوه، فقد كان كريماً معهم غاية الكرم .. بل وسمح لبعضهم أن يبنوا لهم بيوتاً على أي قطعة يختارونها من أرضه المترامية الأطراف .. كانوا يدركون أنه يستطيع أن يمنعهم لو شاء .. ولكنه لم يشأ .. بل إن بعضهم تشجع عندما رأى تسامحه مع غيره فبنى دون استئذانه أو إعلامه .. كان يرى كل ذلك .. فيبتسم .. ويسكت .. وشجعت ابتسامته وصمته بعضهم فأضاف له حول بيته مساحة من الأرض، فيها شجرة أو شجرتين أو أكثر، من الأشجار المثمرة .. ثم بنى حولها سوراً .. وكتب على مدخل ذلك السور اسمه ولقبه وكنيته .. كان يرى كل ذلك ويسكت .. ويقول في نفسه: مساكين .. لن أخسر شيئا إن بنوا أكواخاً لهم على أرضي تقيهم حر الصيف وبرد الشتاء .. هي لي أولاً وأخيراً وهم يدركون ذلك ..
ولكن حبهم واحترامهم لم يخفف شعوره بالوحدة .. ولا منع تزايد قلقه .. فالأيام تمر .. وها هي الشعيرات البيضاء بدأت تغزو شعر رأسه وشاربيه ولحيته .. وبدأ يحس بالتعب في جولاته الصباحية والمسائية مع أبي نارة (كبير الخدم)، متفقداً أرضه وما عليها ومن عليها .. وأسرّ بذلك، ذات تعب، لأبي نارة، فقال له: طال عمرك يا كبير .. أنت أقعد وارتاح وما عليك .. إحنا ليش هون؟ مش عشان راحتك وخدمتك .. يا كبير كلنا هون بنستنى إشارة من إصبعك الزغير .. يا كبير أنا وجماعتي كلنا تحت أوامرك وبخدمتك ..
أحس الكبير برعشة .. ثمة كلمة في الجملة الأخيرة لم يفهمها .. لا. لقد فهمها ولكنها أصابته بقلق ظل يكبر ويكبر حتى صار غضبا متوهجاً ..
- جماعتي؟
ارتبك أبو نارة ..
- قصدي الشباب يا كبير .. خدامينك يا كبير ..
- لحظة لحظة لحظة .. شو قصدك جماعتي؟
زاد ارتباك ابي نارة
- قصدي ..
- إسمع يا ابو نارة .. هاي أول مرة وآخر مرة بسمعك بتقول هالكلمة .. فاهم؟
- حاضر يا كبير
- رد ع السؤال .. بقلك فاهم؟
- فاهم يا طويل العمر
أخذ الكبير يتذكر مواقف أبي نارة .. يحللها .. ويرى فيها أشياء لم تخطر على باله من قبل .. تذكر عندما عرض عليه أبو نارة أن يتزوج ابنته، وهما عائدان من دفن منية .. قال له يومها: يا طويل العمر .. إنت لساتك زغير ومش معقول تظل بدون مرا تخدمك و (تشوف طلباتك) .. يومها انتهرته وقلت له: يا عيب الشوم يا ابو نارة .. إيديي لساتهم مغبرات بتراب منية وبتطلب مني أتجوز بنتك؟ ما حبيتها منك هاي يا أبو نارة .. ما حبيتها منك ..
وتذكر أن أبا نارة عاد إلى التلميح له بالموضوع أكثر من مرة .. بل وأحضر ابنته أكثر من مرة وكان يقول لها في كل مرة على مسمعه: أي إشي بيطلبه الكبير أوامر .. لو طلب عيونك بتعطيه اياهم .. فاهمة؟ تذكر كل ذلك الآن .. وتذكر النظرات المتبادلة بين أبي نارة وابنته .. نظرات لم يفهمها وقتها ولم يفطن إلى ما وراءها .. تذكر الكبير عندما كانت ابنة أبي نارة تلمس يدها يده وهي تقدم له الشاي مثلاً فيما ظنه وقتها لمسات غير متعمدة .. وتذكر أنها كانت تنحني أمامه وهي تقدم له الشاي انحناءة أكثر من اللازم .. انحناءة تتيح لعينيه أن يريا .. جزءاً كبيراً من صدرها .. ولكن حزنه الشديد أيامها على منية جعله يرى ذلك كله ولا يراه .. وتذكر أيضا عندما جاءت الأرملة (أم أدهم) تشكو له أبا نارة وجماعته الذين حاولوا منعها عندما كانت (تلقط) الخبيزة لتصنع لها ولطفلها وجبة غداء .. وتذكر عندما لمح له بعضهم أن أبا نارة وبعض الخدم يطالبونهم بمبالغ ادعوا أن الكبير أمرهم أن يطالبوهم بها .. كان أبو نارة ينكر ذلك ويقسم في كل مرة أنهم كاذبون وأنهم إنما يتقولون عليه لغاية في نفوسهم لا يعلمها .. أو .. ربما كان ذلك حسداً منهم له وطمعاً في ان يحلوا مكانه قرب الكبير وفي خدمته ..
تذكر الكبير كل ذلك .. وبدأ يشعر بخوف جدي .. وبقلق متزايد .. هذه الممتلكات الشاسعة يجب أن تكون بعدي لمن أثق به وأطمئن إليه .. من الواضح أن هذا الـ (أبو نارة) يخطط لشيء ما .. شيء ما ذي رائحة كريهة .. في هذا الأبو نارة شيء ما يجعلني أتوجس منه .. لا .. لن أسمح له أبداً أن يصل إلى ما يريد ..
في جنح الليل .. تلمس الكبير طريقه خفية إلى بيت أم أدهم .. تفاجأت المرأة عندما فتحت الباب لتجد الكبير بنفسه وراءه واقفا في الظلام ..
-كيفك يا أم أدهم؟ وكيف الصبي؟
ارتبكت أم أدهم ..
- عايشين في خيرك يا كبير
- ناقصك إشي يا بنتي؟
- مستورة يا كبير
- اسمعيني منيح يا بنتي ..
كانت أم أدهم تستمع إليه وعيناها ممتلئتان بالدموع .. تحدث الكبير كثيرا .. ظلت أم أدهم صامتة إلى أن قال لها الكبير أخيراً:
- اتفقنا يا بنتي؟ بكرة الصبح ببعثلك حدا يساعدك في حمل أغراضك .. إبنك راح يكون إبني .. وإنتي راح تعيشي في بيتي مع إبنك معززة مكرمة وكل طلباتك أوامر .. اتفقنا؟
انتقلت أم أدهم للعيش في بيت الكبير .. وكم كانت سعادة الكبير عندما وصل أدهم سن الدخول إلى المدرسة .. وكم كانت سعادته عندما كان معلمو أدهم يمدحون ذكاءه وشطارته .. بل ونبوغه وعبقريته .. يومها أمسك الكبير بيد أدهم ودخل به إلى المضافة .. كان من الواضح أن الكبير في أوج سعادته بأدهم وكأنه ابنه الذي لم تلده منية ..
- يا أدهم .. احكي للجماعة شو أخذتوا اليوم بالمدرسة!
وأخذ أدهم يستظهر أمامهم كل ما تعلمه في المدرسة من آيات وأحاديث وأناشيد .. وكان الكبير يهز رأسه مع كل كلمة تخرج من فم أدهم .. وحانت من الكبير التفاتة إلى أبي نارة فرأى في وجهه اسوداد الرماد المتراكم في الكانون الذي يتوسط المضافة وقد نصبت عليه دلال القهوة ..
تنحنح الكبير فأنصت الحضور جميعاً ..
- يا جماعة عندي كلمتين بدي الكل يفهمهم منيح .. والحاضر يحكي للغايب .. أنا قررت إكتب لهذا الصبي .. أدهم .. كل ممتلكاتي من بعدي .. ومن هون لهظاك اليوم بدي منكم كلكم تعتبروه بمثابة إبني .. وما بدي أسمع في يوم من الأيام من أي واحد منكم أي كلمة هيك ولا هيك ..
ثم التفت إلى أدهم قائلاً: وانت يا أدهم .. انت صحيح لساتك زغير .. بس هيني بقلك قدام الموجودين كلهم .. كل واحد من هالموجودين لازم تعتبره عمك أو خالك أو أخوك .. إذا حبيتهم بيحبوك .. وإذا احترمتهم بحترموك .. واذا أعطيتهم عيونك بعطوك عيونهم. فاهم يا إبني؟
- فاهم يابا
اغرورقت عينا الكبير بالدموع .. دموع السعادة الغامرة .. فأدهم بالنسبة إليه هو ذاته التي ستستمر بعده .. استغرق الكبير في تفكير بالخطوات والترتيبات التالية التي ينبغي عليه أن يقوم بها .. ولكن صوتاً مرتجفاً أخرجه من استغراقه اللذيذ ..
- بس هاظ غلط يا كبير .. مين هو أدهم حتى يصير كبيرنا بعدك؟ قصدي بعد عمر طويل؟
كان صوت أبي نارة ..
احتد الكبير ..
- شو قلت ولك؟
- مهو يا كبير .. انت عارف مين أبوه ومين أمه؟
- إخرس .. أدهم إبني
قهقه أبو نارة ونظر إلى الكبير نظرة مجنون هارب من احدى المصحات العقلية .. ثم نظر إلى أدهم .. ثم إلى الموجودين واحداً واحداً ..
- إبنك؟ هاهاهاها .. عن جد؟ شو هالمفاجأة؟ واحنا من زمااااااااان بنحكي هالولد لمين؟ وآخرتها طلع إبنك؟ وأنا من هبلي قال بدي اجوزك بنتي! هاهاهاها
انتفض الكبير واقفاً ..
- إخرس يا حيوان .. أنقلع من هون .. وما بدي أشوف وجهك مرة ثانية
كان الجنون قد وصل مع أبي نارة إلى الدرجة التي لم يعد بعدها قادراً على إيقاف سيل الكلمات التي خرجت متداخلة من فمه:
- مش من حقك يا كبير .. إحنا قضينا طول عمرنا بنخدم فيك عشان آخرتها تجيبلنا إبن حرام يدندل إجريه على كتافنا؟
- إخرس يا حقير
- ما بدي أخرس
- طلعوه برا .. براااااااا
- أطلع بره؟ طيب .. ماشي يا كبير .. ماشي .. أنا طالع .. بس بحب تعرف شغلة .. وحياة هالشيبات ما راح اتركك تتهنى لا انت ولا ابن هالحرام ..
- براااااااااا
وخرج أبو نارة .. ولحقه بعض الموجودين ..
- اسمعوا .. من هاي اللحظة أبو نارة واللي لحقوه ممنوع يظلوا بهالبلد .. أدهم إبني .. واللي عاجبه عاجبه واللي مش عاجبه يقلب وجهه ويوريني عرض كتافه ..
- طلباتك أوامر يا كبير ..
وقف الكبير فوقف أدهم والموجودون ..أمسك الكبير بيد أدهم .. اصطفوا جميعا وتقدموا واحداً واحداً إلى المكان الذي وقف فيه أدهم إلى جانب الكبير .. قبلوا يد الكبير .. ثم يد أدهم .. وانصرفوا إلى بيوتهم.
لم ينس الكبير تهديدات ابي نارة .. ومنذ تلك الليلة لم يعد أدهم يرى في أي مكان بلا حراسة ..