2014/05/17

الصوصة

كان الوقت عصراً .. وفي ظل المسجد الصغير كان أبي و (واحد من الشباب) - كما يحلو لهم أن يسموا أنفسهم - جالسين على (جنبيتين) فرشتا على (حصيرة) على ظهر البئر الذي لم يكن به قطرة ماء واحدة ..

كانا يتحدثان بحماسة عن الخلافة، التي أصبحت - في رأيهما - قاب قوسين أو أدنى .. ففلان وفلان وفلان (الضباط في الجيش) مخلصون، وقد وعدوهم خيراً .. وفلان، شيخ عشيرة كذا، متعاطف معهم في السر، وهو، على الرغم من مواقفه العلنية الموالية ل (النظام الكافر)، إلا أنه في الحقيقة من أشد المتحمسين للخلافة .. أما فلان وفلان وفلان، فهم تجار كبار، و (معهم مصاري زي الرز) .. وهم من أصدقاء الجماعة و (لن يبخلوا عليها ببعض حقها عليهم) .. أما (الأمة) فلن تسكت - طبعاً - على الهزيمة التي لحقت بها قبل ثلاثة عشر شهراً ..

كان الراديو، أثناء ذلك الحديث، مثبتاً على محطة البي بي سي .. وعندما دقت ساعة المحطة الثالثة أو الرابعة عصراً، سكتا ليستمعا إلى نشرة الأخبار .. فمن يدري .. ربما تحمل الأخبار لهم ذلك الحدث السعيد، الذي أصبح وقوعه وإعلانه مجرد مسألة وقت.

صعق أبي وجليسه .. فالمذيع لم يعلن ذلك الخبر السعيد .. وإنما: ”هذا، وقد أعلن راديو بغداد، أن البعثيين قد قبضوا على عبد الرحمن عارف، رئيس الجمهورية، وأنهم شكلوا مجلساً لقيادة الثورة، يترأسه كل من أحمد حسن البكر التكريتي وصدام حسين التكريتي ..“ ..

أغلق أبي الراديو بعنف .. وضربه بكفّ يده .. وكأنما يصفع المذيع .. وأحمد حسن البكر التكريتي .. وصدام حسين التكريتي .. والبعثيين جميعاً ..

نادى أبي بصوت كهزيم الرعد:

- يا مرااااااااا

ردت أمي من وراء الباب بصوت مرتعش: نعم؟

- شو صار بالغدا؟

تلجلجت أمي .. فقد أحست بغريزتها وخبرتها أن ثمة مصيبة قادمة لا محالة ..

- الغدا؟

- آه الغدا .. انشالله ما طبختي؟

- مهوووو .. ما في إشي أطبخه.

- كيف ما في؟ مش في عندك ملوخية ناشفة؟

- مبلى في

التفت إلي .. فانكمشت مذعوراً ..

- مش قلتلك ولك تروح تجيب صوصة من عند أبو العبد؟

وقع علي سؤاله كالصاعقة .. ونظرت إلى شجرة الرمان التي أبغضها في مثل هذه الحالات ..

نعم .. لقد طلب مني ذلك قبلها بساعات .. ولكن رعبي - بعد حادثة الوزات الثلاث - من كل ذي منقار قد دفعني إلى تطنيش ذلك الطلب ما استطعت إلى ذلك سبيلاً ..

لم أجد ما أقوله سوى: نسيت

وأدت شجرة الرمان دورها .. كم أبغضك يا شجرة الرمان .. وكم أحبك!