2014/05/19

إخلاص

أنهيت عمل الشاي بالنعناع، الشاي بالنعناع الذي يحبه سيدي، وضعت إبريق الشاي والسكرية وكاستين فارغتين على صينية واتجهت إلى الشرفة التي كان يجلس فيها سيدي وسيدتي يستمتعان بمنظر غروب الشمس وهما يستمعان إلى أم كلثوم تغني ”شمس الأصيل“ .. انحنيت أمام سيدي وسيدتي وأنا أقدم لهما الشاي .. وكان سيدي ينظر إلي بتمعن غريب وكأنه يراني لأول مرة ..

- اقعدي يا بنتي

قالت سيدتي بصوت منخفض .. فيه، إلى جانب الحزم الذي تخاطبني به عادة، رقة لم أعهدها ..

تلفت حولي .. كان هناك كرسي ثالث إلى جانب الكرسي الذي كانت تجلس عليه سيدتي ..

وقفت أمامهما، محنية الرأس، شابكة أصابعي وقلت:

- يا عيب الشوم يا ستي .. معقولة أقعد معك ومع سيدي

ولكنها كررت بكل الحزم الذي تعودته منها:

- اقعدي

جلست متربعة على الأرض .. ولكنها انتهرتني ..

- تعالي اقعدي ع الكرسي .. جنبي .. هون

- بس يا ستي ..

- قلتلك تعالي!

لم أمتلك أمام الحزم والإصرار في صوتها ونظرتها إلا الامتثال .. فجلست على طرف الكرسي الثالث ..شابكة أصابعي في حجري .. ساد صمت للحظات .. كانت خلالها عيناي متسمرتين في رخام ارضية الشرفة وكأنني أحصي خطوطه وتعرجاته ..

فجأة قام سيدي حاملاً كاسة الشاي التي كان قد شرب نصفها قائلاً:

- أنا رايح جوة .. أسيبكم تتكلموا على راحتكم ..

نظرتُ إلى سيدتي بتساؤل ..

نظرَتْ إليَّ سيدتي نظرة طويلة .. أحسستها تسري في عروقي مع الدم لتسبر غور كل خلية من خلاياي .. ثم قالت:

- إسمعيني منيح يا إخلاص ..

تحدثت سيدتي مطولاً .. كنت طيلة الوقت أستمع وعيناي مفتوحتان على آخرهما .. في البداية لم أستوعب ما كانت تقول .. وعندما استوعبت لم أصدق .. وعندما صدقت تركتني في ذهول شديد وهي تقول:

- فكري منيح باللي قلتلك اياه .. معك أسبوعين تفكري .. ويا ريت يكون جوابك آه .. لأنه إذا ما كانش آه راح أزعل كثير .. وإذا زعلت أنا راح يزعل سيدك .. فاهمة؟

- فاهمة يا ستي ..

- على فكرة .. أنا وسيدك متفقين الموضوع يكون سري .. يعني حسّك عينك حدا غيرك يعرف بالموضوع .. ويا ويلك إذا بنعرف إنه في حدا معه خبر .. فاهمة؟

- فاهمة يا ستي ..

وتركتني في ذهولي ..

* * * * * * *

كان سيدي وسيدتي قد تزوجا منذ ثلاثة سنوات تقريباً .. هذا ما أخبرتني به سيدتي بصوت حزين .. كانا ينتميان إلى عائلتين من أكثر عائلات المنطقة ثراءً .. إلا أن الود كان مفقوداً بين العائلتين .. التقيا في الجامعة وأحب كل منهما الآخر .. وكان حباً عارضه أهلها وأهله .. ولكن العائلتين لم تملكا أمام إصرارهما إلا الرضوخ .. حصل الزواج فعلاً .. إلا أن ذلك لم يزد عائلتيهما إلا تباعداً ونفوراً .. وكانت النتيجة أن كليهما انسحب تدريجيا من عالمه ليخلقا معاً عالمهما الخاص ..

بعد زواجهما بأقل من شهر جاءتها الدورة .. ثم جاءتها ثانية وثالثة ورابعة .. في المرة الأولى كان هناك مجرد تساؤل بسيط في عينيها وعينيه .. في المرة الثانية كانت علامات الاستفهام والدهشة أكبر ..في المرة الثالثة كبر القلق .. في المرة الرابعة كانت نظراتها إليه ونظراته إليها، تحمل نوعاً من الإتهام المبطن .. لم يبح أي منهما للآخر بتلك الشكوك .. ولكن الصمت كان مدوياً .. وأخيراً كان لا بد من المصارحة ..

- إنتي لازم تروحي ع دكتور

- وانت كمان لازم تروح ع دكتور

هذا ما كان .. ذهبا معاً .. هي إلى أخصائي نسائية وهو إلى أخصائي مسالك بولية وتناسلية .. ثم إلى ثانٍ وثالث ورابع .. أجريا كل الفحوصات والتحاليل .. ابتلعا كل الأدوية التي كان يكتبها الأطباء .. تحول سرير الزوجية إلى مختبر .. وبدلا من نظرات الشوق والرغبة المتبادلة التي كانت تدفعهما دفعاً إلى السرير بلهفة جامحة تدفعه إلى حملها على ذراعيه إلى السرير وذراعاها تطوقانه بجوع مفترس ..، أصبح ذهابهما إلى السرير محكوماً بجدوال ومواعيد وحسابات وأرقام .. تحولت لقاءاتهما الليلية الى مجرد تجارب ومحاولات لإتمام تفاعل كيميائي .. كان يجب أن يسبق كل (تجربة) ابتلاع حبة من الدواء الفلاني وأن تتنتهي التجربة بتناول حبة أخرى من دواء آخر .. ومع فشل كل (محاولة) كان الألم يكبر في صدرها وصدره .. وازدادت فترات الصمت والسرحان ..

لم يمت الحب الكبير .. ولكنه أصيب بجرح كبير ..

* * * * * * *

كان عرض سيدتي - الذي تقدمت به إلي فيما يشبه الإنذار - هو عبارة عن .. صفقة .. صفقة لها ثمن .. خدمة مدفوعة الأجر .. نصف ذلك الأجر أقبضه عند إبرام العقد وتوقيعه .. ونصفه الآخر عند تسليم (البضاعة) ..

كنت، وقتها، صغيرة السن .. كنت في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة .. أخرجني أهلي من المدرسة رغم تفوقي .. لألتحق، كما التحقت أختاي قبلي، بخدمة البيوت، تلك البيوت التي كانت خيالاتنا تنسج حول ما يجري خلف أسوارها العالية شيئاً قريباً من حكايات ألف ليلة وليلة ..

كنت، قبل أن ألتحق بهذا البيت، أسمع ما ترويه أختاي، في تباهٍ، عن الحياة في البيوت التي خدمن فيها، وأتخيل نفسي في بيت مثل تلك البيوت .. لا كخادمة مثل أختيّ .. بل كسيدة، تأمر فتطاع .. وتشير بإصبعها فيتراكض الآخرون لتلبية رغباتها ..

وكان عرض سيدتي يتضمن - نوعاً ما - شيئاً من تلك التخيلات .. نموذجاً مصغراً .. كان يتيح لي أن أكون نصف سيدة .. ولمدة لا تقل عن تسعة شهور ..

* * * * * * *

دخل عليّ سيدي، بكامل أناقته .. جرى كل شيء بسرعة، بلا تمهيد، ولا مقدمات .. لم نتبادل كلمة واحدة: أطفأ النور، أنزل سرواله بما يكفي .. ورفع طرف ثوبي بما يكفي .. ثلاثة .. اثنان .. واحد .. صفر .. رفع سرواله .. وتركني أنزل طرف ثوبي بنفسي .. وخرج بكامل أناقته ..

* * * * * * *

في فجر اليوم التالي، أفقت كما أفيق كل يوم .. أعددت لسيدي وسيدتي مائدة الإفطار .. أنهيت عمل الشاي بالنعناع، الشاي بالنعناع الذي يحبه سيدي، وضعت إبريق الشاي والسكرية وكاستين فارغتين على صينية واتجهت إلى الشرفة التي كان يجلس فيها سيدي وسيدتي يستمتعان بمنظر الشروق .. انحنيت وأنا أقدم الشاي لهما .. لم يكن هنالك كرسي ثالث .. ووقفت شابكة أصابعي في حجري في انتظار الأوامر.