2014/05/25

داليا

ولنا في أم قيس قصص كثيرة .. ذكرتني زوجتي بإحداها بعد أن قرأت لها القصة التي كتبتها اليوم بعنوان ”أم قيس“ ..

قالت لي: ”ليش ما تكتب قصة داليا؟“

سألتها:

- ”مين داليا؟“

- ”صاحبة ديانا .. البنت اللي راحت معانا العام على أم قيس .. شو؟ لحقت تنسى؟“

زوجتي معها حق في سؤالها الاستنكاري .. فذاكرتي أصبحت أضعف من ذاكرة ذبابة، تهشها فتنسى أنك قد هششتها بعد نصف ثانية فتعود إلى ما كنت قد هششتها عنه ..

ولكنني تذكرت قصة داليا .. فذلك اليوم من الصعب أن ينساه حتى شخص ضعيف الذاكرة مثلي ..

في ذلك اليوم نزلنا إلى السيارة فوجدت صبية بعمر ابنتي .. علمت أن اسمها داليا .. وأنها بنت بعض جيراننا في الحي .. وأنها زميلتها في الصف .. وأنهما قد اتفقتا على أن تذهب داليا مع ديانا وأم ديانا وأبي ديانا في تلك الرحلة ..

- ”أهلك بيعرفوا يا بنتي؟“

- ”آه بيعرفوا عمو“

- ”طيب .. على بركة الله“

ولأن الحكي بيجر الحكي .. علمت من داليا أن أهلها لا يأخذونها معهم في مشاويرهم .. لأنه .. ”بيقولوا عني منحوسة .. وبيقولوا (قال) أنو أي مكان بروح عليه لازم لازم تصير مصيبة“

ضحكت .. فأنا لا أؤمن بالنحس والمناحيس ..

- ”ما ترديش ع هالحكي يا بنتي .. هاظ حكي فاظي“

وضحكت مرة أخرى ..

وصلنا أم قيس .. جلسنا .. تغدينا .. تحدثنا .. تجولنا بين آثارها .. ووقفنا على تلك الربوة .. الربوة التي تستطيع منها أن ترى بحيرة طبريا .. وتتحسّر .. وبعد أن تحسرنا بما فيه الكفاية، عدنا أدراجنا إلى المكان الذي كنا جالسين فيه .. رأيت شجرة (صبر) .. ولأن (الصبر) يرتبط لدي بذكريات عابقة من الطفولة، عندما كنا نزور (دار سيدي) في الضفة الغربية، فقد وقفت أمام شجرة الصبر في أم قيس .. وقلت لديانا: ”صوريني“. صورتني ديانا بموبايلها الذي أسميه مازحاً مضيق برمودا (لأن كل الصور التي تصورنا به تختفي في ظروف غامضة .. تماماً كما تختفي السفن والطائرات التي تمر من ذلك المضيق أو تقترب منه) .. المهم .. ما علينا .. بعد أن صورتني ديانا ببرمودها أحببت أن أمازحها .. حملتها بين ذراعي .. وتصنعت أنني أهم بإلقائها على شجرة الصبر .. انزلقت ديانا من بين ذراعي مرعوبة .. ولعلها ظنت لوهلة بأنني جاد فعلا في نية إلقائها هناك .. لم أدر ما حصل بعدها .. ولكن ساقي ارتطمت بعمود حجري دائري يرتفع قرابة الستين أو السبعين سنتيمترا عن الأرض .. أحسست لحظتها بأن ساقي قد كسرت .. أو أن شيئا كالجمر قد لسعني هناك .. في منتصف الساق .. ولكنني تحاملت على نفسي وأكملت المسير إلى المكان الذي كنا نجلس فيه .. ثم خف الألم ونسيت ما حصل ..

عند الغروب ركبنا السيارة عائدين إلى عمان .. وكان يجب أن نمر بإربد .. ولكننا بدلاً من أن نسلك طريقاً (برّانيّاً) وجدنا أنفسنا في وسط شارع ضيق لا يتسع إلا لسيارة واحدة .. كان صف السيارات أمامنا وخلفنا يمتد إلى ما لا نهاية .. وكانت السيارات تمشي نصف دقيقة لتعود فتقف بعدها عشر دقائق ..

المهم .. خرجنا (بعد عمر طويل) من ذلك الشارع .. بعدها سلكت أمورنا نوعاً ما .. وها نحن أخيراً على الطريق الرئيسي المتجه جنوباً صوب عمّان ..

بعد تجاوزنا مثلث (النعيمة) بدقائق، وقريباً من تقاطع بليلا، كان هناك توقف جديد .. ولكن هذه المرة كان توقفاً من نوع مختلف .. فعلى هذا الطريق الخارجي من النادر أن تتوقف حركة السيارات بهذا الشكل .. كان الشارع مظلما (فعبد الله النسور كان قد فرض التعتيم الكلي على الطرق الخارجية) وكان هنالك عدد كبير ممن نزلوا من سياراتهم يستطلعون سبب التوقف .. وفجأة رأيناهم عائدين مهرولين إلى سياراتهم .. ثم رأينا رجال الدرك يأمروننا بالالتفاف والعودة من حيث أتينا ..

- ”يا إخوان الطريق مسكرة .. إرجعوا من مطرح ما جيتوا“

- ”شو في؟“

- ”في ناس من سكان المنطقة قاطعين الطريق .. وبيراجدوا حجار على أي سيارة بتحاول تمر من المنطقة“

وفجأة أحسسنا جميعا بالاختناق .. فقد استعمل الدرك القنابل المسيلة للدموع لتفريقهم ..

تراجعت السيارات في الطريق المعتم بعشوائية .. وأخذت تصطدم ببعضها البعض .. ضرب أحدهم سيارتنا وهو يرجع (ريفيرس) .. حاولت تنبيهه بزامور سيارتنا ولكنه لم يتوقف إلا بعد أن سمع صوت زجاج أضواء سيارته الخلفية يتكسر عند اصطدامه بباب سيارتنا الأمامي الأيمن .. الباب القريب من المقعد الذي كانت زوجتي تجلس عليه ..

ولكن الله ستر .. فقد توقفت السيارة المتراجعة بعد تحطيم باب السيارة .. وتراجعنا جميعاً عائدين باتجاه إربد ..

بعد أن ابتعدنا عن المكان قليلاً أخذنا نتبادل التهاني بالسلامة .. واستذكرنا محفوظاتنا من الأمثال التي يقولها الناس في مثل هذه الظروف .. من نوع ”بالمال ولا بالعيال“ و ”الحمدلله إنها وقفت على هيك“ إلخ إلخ إلخ ..

توقفت بالقرب من سيارة دورية شرطة متوقفة على يمين الشارع .. وسألته:

- ”كيف بدنا نروح على عمان؟“

- ”ما في قدامك غير تروح عن طريق الزرقا“

كنا قد تجاوزنا مثلث النعيمة .. ونصحنا رجال الدورية بعدم العودة إلى هناك .. فلعشيرة المرشح الذي خسر الانتخابات والتي خرجت لتقطع الشارع الرئيسي امتدادات في تلك المناطق .. لم يكن أمامنا إلا الاستمرار في طريقنا .. وصلنا جسر مستشفى الملك عبد الله هناك طريق يتجه يميناً إلى الزرقاء .. دخلنا فيه .. كان الشارع أمام المبنى الحكومي هناك مضاءً بأنوار الكشافات الساطعة .. أما ما بعد ذلك فكان ظلاماً دامساً .. قررت المغامرة وانعطفت يميناً .. ولكن قطيعاً من الكلاب المتوحشة هاجمنا فاستدرت هارباً منها متجها إلى الرمثا ..

قبل وصولنا الرمثا كان هناك تقاطع آخر وسهم إلى اليمين باتجاه المفرق .. فانعطفت إلى اليمين ..

وصلت المفرق .. وتابعت طريقي إلى الجنوب .. وبعد أن سارت السيارة مسافة أحسستها مئات الكيلومترات وصلت تقاطعاً آخر .. وسهم إلى اليمين باتجاه الزرقاء .. انعطفت إلى اليمين مع السهم .. ظلام دامس .. لم يكن هناك غيري في ذلك الإتجاه فاعتقدت أنني قد أضعت الطريق ..

توقفت إلى أن مرت سيارة .. أوقفتها وتأكدت من سائقها أن هذا الطريق يوصلني فعلاً إلى الزرقاء إن تابعت السير فيه ..

تابعنا سيرنا .. دخلنا الزرقاء .. وأصبح كل همي أن أخرج من الزرقاء ودهاليزها .. وأخيراً بعد أن تهت عدة مرات وسألت عدة مرات .. ها أنا ذا على بداية طريق ياجوز باتجاه عمان .. وتشاركت حفر الشارع ومطباته مع الظلام في جعل مسيرنا (مريحاً للغاية) ..

عندما اقتربنا من بدايات عمان تنفست الصعداء .. حانت مني التفاتة - عبر المرآة - إلى المقعد الخلفي للسيارة .. تنبهت إلى داليا، صديقة ابنتي .. وتذكرت قولها في ظهيرة ذلك اليوم:

”أهلي ما بيوخذوني معهم في مشاويرهم .. لأنه بيقولوا عني منحوسة .. وبيقولوا (قال) أنو أي مكان بروح عليه لازم لازم تصير مصيبة“

وضحكت مرة أخرى .. فأنا .. لا أؤمن بالنحس والمناحيس ..