2014/01/24

سعيد

كنت في سيارتي، متجها إلى العقبة، في محاولة للترويح عن النفس. عدت أول أمس من السعودية بالطائرة في إجازة قصيرة بعد عام طويل من العمل المضني، عدت وحدي، فقد رفض أولادي مرافقتي إلى الأردن، وفضلوا الذهاب لتمضية الإجازة مع أمهم (جانيت) عند أهلها في أمريكا. بعد اكتمال اجراءات التفتيش والجوازات خرجت إلى قاعة إنتظار القادمين. لم يكن معي سوى شنطة صغيرة (هاندباغ) علقتها على كتفي، أما الحقيبة الكبيرة التي وضعت فيها بعض الملابس والكتب فكنت قد وضعتها في صندوق السيارة التي تنتظرني في المطار. في القاعة رأيت رجلا يحمل ورقة متوسطة الحجم تحمل إسمي .. اقتربت منه، مددت إليه يدي مصافحا، وعرفته بنفسي.

- الحمد لله ع السلامة. أنا مندوب الشركة اللي حضرتك رتبت معها شحن سيارتك. وهاي المفتاح.

أخذت منه المفتاح، ومددت يدي إليه بمبلغ من المال كإكرامية قائلا:

- شكرا .. يسلموا .. وين بتحب أوصلك؟

- لأ .. شكرا .. بدبر حالي ..

- شو هالحكي؟ .. ما بيصير! .. لا والله غير أوصلك وين ما بدك!

أوصلته إلى بيته واتجهت إلى الفندق الذي كنت قد رتبت أمور إقامتي فيه خلال فترة الإجازة هاتفيا.

* * * * * * *

كنت قد وصلت الفندق في الليل، ولأنني كنت مرهقا من السفر فقد رحت في نوم عميق تخللته بعض الأحلام الجميلة وبعض الكوابيس .. ليس لي في الأردن من الأقارب سوى أخت واحدة مقيمة في الزرقاء، تزوجَتْ أثناء وجودي في أمريكا للدراسة من شاب من إحدى العشائر الكبيرة في البلد، وعندما عدت من أمريكا زرتها ومعي زوجتي (جانيت)، إبنة صاحبة البيت الذي كنت أقيم فيه، أحببت جانيت وأحبتني فتزوجنا .. وصرت فردا من الأسرة بعد أن كنت مستأجرا ..

قبل عودتي إلى الأردن اتصلت بأختي لأخبرها بقدومي .. على الطرف الآخر من الخط كان أحد أبنائها .. هم لا يحبونني .. لا يحبون خالهم الوحيد .. خالهم (البلجيكي) .. هذا اللقب المقيت الذي كانوا يتلذذون برؤيتي متألما كلما سمعتهم يطلقونه علي فيتعمدون تكراره بمناسبة وبغير مناسبة ..

- يابا .. هاظ خالي بيسأل عن أمي

أخبرني زوجها أنها ذهبت منذ عدة أيام في زيارة لأقاربها (غَرْبا) .. أخوالها وأعمامها وخالاتها وعماتها ممن بقوا هناك (غربا) ولم يخرجوا مثلي إلى الشتات ..

إذن لم يكن لدي ما أفعله سوى تمضية فترة إجازتي كسائح ..

* * * * * * *

رغما عني، ظللت طوال الطريق أقارن، من نوافذ سيارتي المكيفة، بين ما أراه الآن، وبين مناظر نفس الأشياء والأماكن التي رأيتها في زيارتي السابقة .. هل اختلف شيء؟ ربما، حفرة جديدة، هنا أو هناك، على طول الطريق الصحراوي الممتد بين عمان والعقبة .. وجوه ازدادت بؤسا وشقاء وتقطيبا لأجساد ترتدي ملابس أكثر رثاثة ..ما عدا ذلك لم أر أي اختلاف ..

وصلت القطرانة .. كنت جائعا .. نظرت إلى مؤشر البنزين في السيارة .. حسنا .. ها هي الإستراحة .. استراحة القطرانة ومحطة الوقود .. وكعادتي، عندما أضطر أنا لاتخاذ أي قرار، ترددت .. أين أنت يا جانيت لتقرري لي .. هل أبدأ بالسيارة أم ببطني؟ .. كانت جانيت، منذ أن تعرفت إليها هي من يتخذ القرارات .. عني .. وعنها .. وعن أولادنا .. هي من تقرر ماذا نأكل، ماذا نشرب، أين نسهر ليلة رأس السنة، ما هي الملابس التي ينبغي أن أرتديها كلما خرجت من البيت .. جانيت يا عزيزتي .. كم أفتقدك!

اتجهت .. مترددا .. إلى محطة الوقود .. فقد توقعت أن جانيت كانت ستقرر ذلك لو كانت معي .. توقفت بالسيارة على يمين ماكينة التعبئة .. بعد أن أنهى العامل تعبئة السيارة التي سبقتني جاء دوري ..

- قديش بدك أستاذ؟

صوته مألوف بالنسبة لي .. أقصد أنه محفور في مكان ما من ذاكرتي ..

نظرت إليه .. دققت في ملامح وجه الرجل الذي وقف ينتظر إجابتي على سؤاله .. وفجأة .. فجأة تذكرت .. فصرخت كمن هبطت على رأسه صخرة من السماء:

- سعيييييييييييييييييييييييييييد؟

نظر الرجل إلي مندهشا ..

- آه .. أنا سعيد .. إنت بتعرفني؟

كان سعيد (أشطر) طالب في الصف .. كنا، جميعنا، أقصد كل من معه في نفس الصف، نغار منه .. كان مؤدبا .. فلم يكن بوسعنا أن نجد سببا لكرهه .. ولكننا كنا نغار منه لشدة ذكائه .. لتفوقه علينا .. لأنه كان دائما يسبقنا كثيرا في العلامات .. وفي محبة الأساتذة له .. وكان .. بالإضافة إلى ذلك كله يكتب مواضيع جميلة في الإنشاء .. وكانت مجلة الحائط في المدرسة تنشر له .. في كل أسبوع .. قصيدة أو قصة أو خاطرة ..

وفجأة .. كما تذكرته .. تذكرني .. ولكنه بعكسي .. لم يكن سعيدا بتذكره لي.

أصررت، بعد أن أنهى سعيد تعبئة خزان سيارتي بالوقود .. أن يرافقني إلى الإستراحة .. لنجلس ونتحدث. حاول الإعتذار .. ولكنني أزددت إصرارا ..

- ولك أنا عازمك .. من زمااااااان ما شفتك .. إنت مش جوعان؟

وأخيرا قبل .. طلب من أحد زملائه أن ينوب عنه .. واتجهنا معا إلى الإستراحة

* * * * * * *

أثناء تناولنا الغداء حكى لي سعيد كل شيء .. وحكيت له كل شيء ..

على الرغم من تفوقه علينا جميعا، فقد كان، بعكسي أنا، فقيرا .. فلم يستطع أن يحصل على منحة أو بعثة .. ولم يشفع له معدله المرتفع في دراسة الطب .. المهنة التي كان، ولا يزال، يعشقها .. فقد ذهبت كل مقاعد الطب إلى .. من يستطيع أن يدفع، أو أن يدبر من يدفع عنه .. نصحه أحد معارف والده أن يقدم أوراقه إلى العراق .. وهناك كان عليه أن يختار بين الانضمام إلى الحزب والحصول على بعثة تغطي تكاليف دراسته وإقامته .. وبين أن يترك الدراسة ويعود .. فـ .. عاد ..

بعد عودته أعاد التوجيهي، حصل على معدل أعلى، وقدم إلى الجامعة .. مرة أخرى ذهبت كل مقاعد الطب إلى من يستطيع أن يدفع، أو أن يدبر من يدفع عنه .. وأخيرا يئس من المحاولة .. ولأنه يحب الأدب، التحق بكلية الآداب ..

- كان لازم أدرس أي إشي طالما ما قدرتش أدرس التخصص إللي بلاقي حالي فيه .. وأي إشي يعني تخصص رخيص وكويس وإبن ناس .. فالتحقت بالجامعة في كلية الآداب ..

كنت أشتغل بس عشان أدرس .. ولما مات أبوي صرت أشتغل كمان عشان نعيش .. حاولت أوفق بين شغلي ودراستي .. حاولت كثير .. بس في الآخر .. تركت الجامعة.

* * * * * * *

وأخيرا سكت سعيد ..

أخذت منه رقم هاتفه .. وأعطيته رقم هاتفي المؤقت في الأردن وبطاقتي التي كتب عليها بخط أنيق مذهب إسمي ومهنتي وعناويني وأرقام تلفوناتي ..

وضعها في جيب بنطاله الخلفي ..

وكان لا بد أن يعود سعيد إلى عمله. وأن أتابع طريقي ..