أنهى الحاج رزق حسابات المخبز التي يقوم بها في نهاية كل أسبوع .. أغلق الدفتر .. أخرج من جيب سترته علبة السجائر والولاعة ..أشعل سيجارته .. أخذ منها نفساً عميقاً .. وأخرج من فتحتي أنفه عمودي دخان سرعان ما كونا سحابة فوق رأسه.
قال له الدكتور سامي عندما زاره في المرة الأخيرة بعد أن دقق في صور الأشعة التي كان قد طلب منه أن يعملها في الزيارة السابقة: ”اسمعني منيح يا حج رزق .. لازم تتوقف فوراً عن التدخين .. صحتك بالنازل والتدخين بيزيد الأمر سوء“
فأجابه: ”ما بقدر يا دكتور .. كل شي ولا الدخان“
ولكن الطبيب قال له: ”انت حر. ولكن الدخان رح يقتلك. لا تقول ما حذرتك هاه“
ضحك الحاج رزق بمرارة وأجاب: ”لا تخاف يا دكتور .. ما رح أقول إنك ما حذرتني“
ضحك الدكتور بيأس .. لقد تعود على عناد الحاج رزق .. وهو يعلم تماماً أنه لن يتوقف عن التدخين مهما حصل ..
وأخيرا كان لا بد أن ينهي النقاش .. وقف ماداً يده لمصافحة الحاج رزق قائلاً: ”عقلك في راسك بتعرف خلاصك .. انا عملت اللي عليي وحذرتك“ .. ثم أردف ضاحكاً: ”شكلو رح ناكل من رزاتك قريب“
في ذلك المساء، عندما عاد إلى البيت، أخبر زوجته، الحاجة خديجة، بما دار بينه وبين الطبيب ..
قالت خديجة: ”كلام الدكتور مزبوط .. أنا من زمان وأنا بقلك اتركك من هالسخماط .. بس انت راسك صوان“
فأجاب: ”العمر واحد والرب واحد يا حجة“.
حسابات المخبز غير مطمئنة .. بدأت تتدهور منذ ثلاث سنوات .. ولكنها الآن في الحضيض .. أمامه الآن حلان لا ثالث لهما: إما أن يستغني عن إبراهيم ويوفر راتبه، وإما أن يبيع المخبز فيسدد ما تراكم عليه من ديون ويفتح بما يتبقى من ثمن المخبز بقالة صغيرة يعيش من ورائها هو وزوجته خديجة .. آه يا خديجة .. كم كنت صبورة ومتفانية ومضحية في الأربعين سنة التي مرت على زواجنا .. عشت معي على الحلوة والمرة يا خديجة .. وعندما أخبرنا الأطباء الكثيرون الذين راجعناهم واحداً إثر واحد بأننا لن نستطيع الإنجاب قلت لي: ”اسمعنى منيح يا رزق .. اذا العوقة مني انا روح وتزوج .. مش رح أمانع إنك تتزوج وتخلف .. صحيح ما رح أكون سعيدة .. بس إني أشوفك وبإيدك ولد مبسوط فيه هاي لحالها عندي بالدنيا كلها .. رزق .. سعادتي من سعادتك“ .. يومها قلت لك يا خديجة: ”وانتي اسمعيني منيح يا خديجة .. شو يعني ولاد؟ طز في الولاد. الموضوع هاظ ما بدي نحكي فيه بالمرة .. فاهمة؟“
ولكن خديجة لن توافق على بيع المخبز .. أنا أعرفها .. المخبز روحها وحياتها .. وصيغتها التي وضعتها في يدي بعد أن ترمجت من الجيش بوشاية من البعض فخرجت من المعسكر إلى الشارع صفر اليدين .. ”رزق حبيبي هاي صيغتي كلها .. وهاي أكمن ليرة راظوني بيهن اخواني يوم ما قسموا ورثة المرحوم أبوي .. شو عندك مشاريع؟“
اتفقنا على أن نفتح مخبز ..
قلت لها: ”رح أكتبه بإسمك يا خديجة“
ردت بصوت حاسم: ”لأ“
حاولت أن أجادل: ”بس يا خديجة هاظ حقك .. و ..“
قاطعتني: ”رزق! .. بتسجل المحل بإسمك انتا .. ولا تناقشني .. فاهم ولا لآ؟“
وفتحت المخبز .. أقصد فتحنا المخبز .. خديجة وأنا .. المخبز بإسمي .. ومنها راس المال والدعوات ..
مد يده إلى علبة السجائر .. أخرج سيجارة ثانية أشعلها .. وتراكمت فوق رأسه مرة أخرى سحب الدخان ..
كان أول عامل أشغله معي إبراهيم .. إبراهيم يا صديقي الذي سيكون أول من أضحي به لأنقذ المحل .. ولكن هل سأستطيع فعلاً أن أضحي بك؟
عندما علم إبراهيم بأنني وزوجتي لن نرزق بأولاد .. عانقني .. بل احتضنني .. احتضنني مطولا .. طبطب على ظهري .. وكعادته دائما في مواجهة كل مشاكله بالإيغال في السخرية والقهقهة قال لي: ”معلمي .. انت عارف اني عندي ثلاث ولاد .. والله يا معلمي انهم كاسرين ظهري .. معلمي .. شو رايك توخذ منهم واحد أو اثنين؟“
رغما عني ضحكت ..
”والله يا معلمي ما بمزح .. خذ الولد الزغير .. محمود أبو شخة .. هو صحيح مبهدل بس والله دماته عسل“
”الله يخليلك اياهم يا ابراهيم ويخليك إلهم .. ويقدرك على تربايتهم“
كان إبراهيم دينمو المخبز .. كان هو من يقف من الفجر الى العشاء أمام بيت النار بينما كنت أنا أحضر له أقراص العجين لتكون جاهزة لـ ”الدخول إلى النار“ كما كان هو يردد ضاحكاً .. كم كانت قفشاتك تسعدني يا إبراهيم .. يا صديقي .. يا رفيق العمر ..
”معلمي .. إنت كبرت وختيرت وصار لازم ترتاح .. جيب واحد بدالك يجهزلي القراص وانت امسك الكاش والإدارة ويخلف عليك“
وهذا ما كان .. استلمت الكاش والحسابات والإدارة وساعدني ابراهيم في اختيار من يقوم بما كنت اقوم به .. وساعدت شخصيته المحببة ومرحه ومداعباته لزبائن المخبز في ازدهار العمل وتوسعه وزيادة ايراداته .. فهل ستكون يا ابراهيم أول من أضحي به لإنقاذ المخبز؟
لم أكن أنا الوحيد الذي كبر يا إبراهيم .. أنت أيضا كبرت يا صديقي .. وأولادك كبروا .. أولادك الذين أفنيت عمرك في تربيتهم وتعليمهم إلى أن حصل كل منهم على أعلى الشهادات .. ثم .. طاروا!
قال إبراهيم: ”معلمي .. انا زيك .. ما خلفت“
قلت له: ”ما تقول هيك يا إبراهيم .. بعيد الشر عنك وعن اولادك .. هيهم ماشالله عليهم صاروا دكاترة ومهندسين“
فيتنهد.
أشعل السيجارة الثالثة .. وتراكمت فوق رأسه مرة أخرى سحب الدخان ..
إبراهيم يا ابراهيم .. اللحظة التي ستترك فيها المخبز قد يتوقف فيها قلبي عن الخفقان .. ولكن .. الحسابات يا صديقي .. الديون تتراكم يا رفيق العمر .. انا مضطر .. مضطر يا صاحبي .. انا ..
”معلمي .. معلمي .. يا حج ..“
وبكى إبراهيم ..
في سيارة الإسعاف التي طلبها إبراهيم على عجل .. فتحت عيني ..حاولت أن أتكلم فلم أستطع ..أشرت إليه فاقترب .. وبكل صعوبة لمست الخاتم الذي في يدي .. خاتم خديجة ..
بكى إبراهيم ..
”الحجة خديجة في عيوني يا معلمي .. ما يكونلك أي فكر .. هسه بنوصل المستشفى وبترجع يا معلمي أحسن من أول“