2014/06/07

خربشات

وضع حسنين ما أوصيته بإحضاره لي من السوق على الطاولة، زجاجة ماء صحة، وكيس نايلون نصف شفاف بداخله (زجاجة أخرى) وكيس ورقي يحتوي تشكيلة من المكسرات، وكأسان فارغتان أحضرهما لي من بوفيه الفندق .. وإلى جانبها وضع لي على الطاولة باقي المبلغ .. ديناران وبعض الفكة ..

- خدمة تانية يا بيه؟

مددت له يدي بما تيسر .. وضعه بيده وقبلها على الوجهين .. ثم وضعها على رأسه قائلاً:

-من إيد ما نعدمهاش يا بيه ..

- اقفل الباب وانت خارج يا حسنين

- حاضر يا بيه

وخرج ..

* * * * * * *

حسنين هو أول وجه رأيته في هذا الفندق الذي سكنت فيه منذ إحالتي على التقاعد .. تغير مستخدمون كثيرون في الفندق وبقي هو .. وتغير كثيرون من زبائن الفندق وبقيت أنا .. فتولدت بيني وبينه ألفة صامتة، جعلتني أنال منه معاملة خاصة من بين كل زبائن الفندق .. كان الفندق صغيراً .. فهو مكون من طابقين فقط .. وكانت محتويات الغرفة التي أعيش فيها بسيطة .. حمام داخلي، سرير (مفرد ونص)، دولاب ملابس بدرفتين، طاولة، وكنبتان بينهما طربيزة صغيرة .. للغرفة (بلكونة) صغيرة فيها طاولة بيضاء من البلاستيك، وكرسيين بلاستيكيين من نفس لون الطاولة ..

وتحت الفندق كان مقر فرع لأحد البنوك .. مما يجعل المبنى نموذجياً في هدوئه وخاصة في أيام العطل وساعات المساء بعد إغلاق أبواب البنك في الساعة الرابعة .. هدوء تام لا يقطعه إلا دخول شخص ما إلى كابينة الصراف الآلي فيختفي وراء واجهتها الزجاجية المضاءة طوال الليل بأنوار الفلورسنت البيضاء .. ويخرج وهو يعد ما سحبه من النقود ثم يضعه في جيبه ويمضي في سبيله ..

وعلى العكس من ذلك كانت الحركة دؤوبة على الجهة الأخرى من الشارع المقابلة للفندق تماماً .. حيث ينشط العمل في الكوفي شوب أكثر ما ينشط في ساعات المساء وحتى ما بعد منتصف الليل ..

* * * * * * *

أتاحت لي جلساتي في هذه البلكونة (وخاصة في المساءات وساعات الليل) أن أرى الكثير مما يحدث في الكوفي شوب المقابل .. رأيت الكثير .. وتعلمت الكثير .. ومن وقت لآخر كنت أطلب من حسنين أن يحضر لي (دستة ورق فولسكاب) فأكتب فيها ما رأيت وتعلمت .. ومع الأيام تراكمت الأوراق ..

- انت بتكتب ايه يا سعادة البيه؟

- يعني .. خربشات ..

- تسمحلي أقراها يا بيه؟

- انت بتحب القصص يا حسنين؟

- بموت فيها

-طيب .. اقراها يا حسنين .. بس رجع اي ورقة بتقراها لمكانها وما تلخبطهاش

- حاضر

بعد يومين أعاد لي حسنين الأوراق التي أخذها مني وقد ثقب الأوراق وكتب أسفل كل صفحة رقماً متسلسلاً .. ورتبها في ملف أنيق من الورق المقوى ..

- انت بتكتب حلو أوي يا بيه ..

- والله؟

- نشرت حاجة قبل كده يا بيه؟

- لا

قال مستغربا:

- طب ليه؟

- ماليش في النشر يا حسنين

- خسارة .. أنشر يا بيه .. انا لو بعرف أكتب زيك كده كنت عملت الهوايل

- مانا قلتلك .. ماليش في النشر خالص

خرج من غرفتي وهو يردد:

- خسارة يا بيه .. والله خسارة .. ألف خسارة!

* * * * * * *

بمرور الأيام أصبحت وجوه معظم رواد الكوفي شوب مألوفة بالنسبة لي .. وصرت تقريباً أحفظ مواعيد حضورهم وانصرافهم .. والأمكنة التي يفضلون الجلوس فيها إذا ما كانت شاغرة .. بل إنني أطلقت عليهم أسماء من عندي .. فهذا أحمد .. وهذه سناء .. وتلك سوسن .. قد لا تكون الأسماء التي أطلقتها عليهم أسماءهم الحقيقية .. ولكنها الأسماء التي أحسست أنها الأكثر مناسبة لكل منهم ..

هم خليط من مختلف الأعمار .. إلا أن معظمهم على ما يبدو من طلبة الجامعة القريبة من الكوفي شوب .. خمنت ذلك من أعمارهم، وملابسهم، وما يحملونه في أيديهم .. والأوقات التي يحضرون أو يغادرون فيها ..

وبمرور الأيام بدأت أرى بدايات بعض العلاقات وانتهاء بعضها الآخر .. أقصد تلك العلاقات العاطفية .. وكم شاهدت - من مكاني على البلكونة - كتفين متلاصقين .. لشاب وشابة .. فيما المقعد الذي كانا يجلسان عليه يتسع لأربعة أشخاص أو أكثر .. وكم شاهدت - من نفس المكان - وعلى نفس الطاولة، شاباً وشابة يجلسان على مقعدين متقابلين تفصلهما الطاولة ومشاعر توحدت يوما ثم تباعدت .. ثم أرى أحدهما يدخل إلى الكوفي شوب فإذا رأى الآخر جلس على طاولة أخرى بعيدة مديراً ظهره له لئلا تلتقي العيون ..

* * * * * * *

ازداد عدد رواد الكوفي شوب من الشباب الملتحين (والصبايا المحجبات) .. في البداية كانوا يجلسون في إحدى الزوايا على طاولات متجاورة .. ثم صاروا يلصقون طاولتين أو أكثر (حسب عددهم) فيجلسون في حلقات يستمعون فيها بصمت وانتباه شديدين لأحد الرجال الأكبر سناً .. وتدريحياً أصبحت ألاحظ أن صوت سماعات الكوفي شوب كان يتوقف بمجرد أن ترتقع أصوات الأذان في المساجد القريبة ..

وعلى طاولة أخرى قريبة من زاوية الملتحين، صرت ألاحظ رجلاً يجلس بانضباط شديد، متشاغلاً طيلة الوقت بقراءة جريدة، يمر قبل خروجه على الكاشيه، يتبادل هو وموظف الكاش حديثاً قصيراً ويخرج .. وبعد دقائق يدخل رجل آخر .. يمر على الكاشيه، يتبادل هو وموظف الكاش حديثاً قصيراً .. ثم يجلس في نفس المكان بانضباط شديد، متشاغلاً طيلة الوقت بقراءة نفس الجريدة ..

* * * * * * *

أرسلت حسنين ليشتري لي بعض الأغراض من السوق .. لم يكن المكان الذي طلبت أن يأتيني بتلك الأغراض منه بعيداً ولكنه عاد بعد ساعتين ممتقع اللون ..

- ليش تأخرت؟

- يا بيه .. قوللي حمد الله ع السلامة .. ده انا كنت ح اروح فيها لولا ربنا ستر ..

جلس حسنين يقص علي ما حصل معه ..

- وانا راجع يا بيه مريت من قدام بوابة الجامعة .. منتا عارف ما فيش طريق تاني .. وقفوني رجالة الأمن وطلبوا مني البطاقة .. ولسه يا دوب طلعتها من جيبي وإذ بعشر سيارات بتوقف قدام البوابة ونزلوا منها ييجي خمسين راجل .. اللي شايلين مسدسات واللي شايلين خناجر واللي شايلين نبابيت ..حاولوا الأمن يمنعوهم بس ما قدروش ..

- اوف؟ ليش؟ شو فيه؟

- بيقولوا حصلت خناقة جوه الجامعة علشان واحد تحرش بواحدة قاموا قرايبها تعاركم مع الراجل اللي تحرش بيها وقرايبه ودول جايين يشعللوها .. وبيقولوا الموضوع خناقة علشان انتخابات طلابية وما حدش عارف الحقيقة ..

- الله يستر ..

* * * * * * *

أنا حسنين محمد عبد العاطي .. الفصول اللي قبل كده كتبها المرحوم .. كانت آخر حاجة كتبها: ”الله يستر“ .. بس ربنا كان كاتب حاجة تانية .. دي مشيئة ربنا ولا اعتراض على مشيئة ربنا .. النهاردة المرحوم كان قاعد ع البلكونة .. نفس اللي حصل الصبح في الجامعة تكرر الساعة ستة في الكوفي شوب ..قبل المغرب بشوية .. سيارات وملثمين ومسدسات ونبابيت وحجارة بتتحدف من كل ناحية ومن الناس اللي كانت عالسطوح .. سطح العمارة اللي فيها الفندق وسطح العمارة اللي فيها الكوفي شوب اللي قبالنا .. والناس اللي كانت في الشارع تحت .. المرحوم اتصاوب وما لحقناهوش .. نصيبه بأى .. ربنا يرحمه ويرحمنا.